المسألة الاقتصادية فى مصر قديمة، وهى بدلا من أن تُحَلّ تدريجيا بعملية قصدية للتنمية تهدف إلى تحقيق التنوع فى النشاط الاقتصادى، ورفع إنتاجية عوامل الإنتاج، والتشغيل الكامل والمنتج، ازدادت تعقدا بمرور السنين والعقود. كان المأمول أن تؤدى التنمية إلى رفع مستوى المعيشة، فلم يجن الناس إلا اتساع رقعة الفقر بينهم. الارتفاع المستمر لمعدل الفقر، حسب بيانات بحث الدخل والإنفاق الذى يجريه الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، مؤشر كافٍ للدلالة على قصور السياسات الاقتصادية. فيما بين سنتى 2000 و2020، ارتفع هذا المؤشر من 16,7 فى المائة سنة 2000، إلى 19,6 فى المائة سنة 2005، إلى 21,6 فى المائة سنة 2009، إلى 27,8 فى المائة سنة 2015، إلى 29,7 فى المائة سنة 2020. ورغم عدم وجود بيانات عن المعدل الحالى للفقر، فالاتفاق منعقد بين المراقبين على أن الارتفاع المستمر فى الأسعار فى السنة الأخيرة قد أدّى إلى ارتفاع ملموس صاحبه فى معدل الفقر.
• • •
التجلى الأول للمسألة الاقتصادية هو العجز الداخلى المزمن، أى عجز الميزانية الذى أدّى إلى نمو مستمر وهائل فى الدين الداخلى فى العقود الأخيرة حتى بلغ الأربعة تريليونات من الجنيهات تمثل ما يراوح الـ90 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى. الميزان الخارجى، أو ميزان الحساب الجاري، فى داخله الميزان التجارى يعانى بدوره من عجز مزمن، إلا أن مصادر العملة الأجنبية من السياحة، وتحويلات المصريين العاملين فى الخارج، وإيرادات قناة السويس، كانت تسدّ هذا العجز. فى العقد الأخير، انهارت إيرادات السياحة بفعل عدم الاستقرار السياسى أولا ثم بسبب الوباء العالمى، والوباء أدّى كذلك إلى تباطؤ الاقتصاد العالمى فتأثرت إيرادات قناة السويس سلبا. النتيجة كانت أن العجز الداخلى أضيف إليه العجز الخارجى، أى العجز فى ميزان الحساب الجاري، وهو ما استدعى، لسدّه، ولتحقيق التوازن المطلوب فى ميزان المدفوعات، الاقتراض من أسواق المال الخارجية ومن المؤسسات الدولية. الحرب بين روسيا وأوكرانيا زادت الطين بلة، إلا أنها لم تكن لا الأصل ولا السبب فى العجز والاقتراض الخارجيين.
هذا الاقتراض تجاوز أى حد معقول. هو أدّى إلى ارتفاع الدين الخارجى من 34 مليار دولار فى سنة 2012 إلى 159 مليار دولار فى شهر سبتمبر 2022. لو خصصت هذه الأموال المقترضة الهائلة لتشغيل المصانع والناس فيها ولتنويع الإنتاج، ولإصلاح التعليم، ولتحسين الرعاية الصحية، ولصياغة سياسة سكان شاملة وتطبيقها، لنشط الاقتصاد، وارتفع المعدل الحقيقى لنمو الناتج المحلى الإجمالى، وتَكَوَّن رأسمال بشرى أعلى مستوى يسهم بدوره فى رفع إنتاجية النشاط الاقتصادى، ولانطلقت بذلك دورة فضلى لنمو هذا النشاط، تُمكِن البلاد من خدمة الديون التى اقترضتها، ومن خوض عملية تنمية ملموسة تستطيع بها حلّ مسألتها الاقتصادية حلّا تدريجيا. كان من شأن هذه المقاربة أن تسمح أيضا بتنفيذ مشروعات للبنية الأساسية، ولكن فى الحدود التى تسمح بها قدرة الاقتصاد على خدمة الدين الخارجى.
التراجع المستمر فى قيمة الجنيه المصرى، وانعكاس ذلك فى التضخم وفى الارتفاع غير الأقل استمرارا فى الأسعار، ليسا إلا انعكاسا لتجاهل القدرة الذاتية على خدمة الدين والغوص فى الاقتراض بغير حساب. المدهش حقا أن الأزمة المالية الخانقة منذ عام مضى لم تؤثر لا فى هذا التجاهل ولا فى هذا الغوص.
• • •
يوم الأربعاء الماضى، وقف وزير النقل أمام مجلس النواب يطلب الموافقة على الاتفاقية الموقعة بين الهيئة القومية للأنفاق ومجموعة من البنوك، تقترض الهيئة بمقتضاها مبلغ مليارى يورو بضمان هيئتى تنمية الصادرات الألمانية والإيطالية. الغرض من هذا القرض المجمَع، غير المعروف سعر الفائدة عليه، هو تمويل إنشاء خط القطار الكهربائى الذى يربط العين السخنة على خليج السويس بمدينة العلمين الجديدة على ساحل البحر المتوسط فى شمال غرب البلاد. انزعج عدد من نواب المعارضة القلائل فى المجلس وأعربوا للوزير عن اندهاشهم من طلبه وتساءلوا عن ضرورة القطار الكهربائى، خاصة فى الوقت الحالى الذى تكتوى فيه أظهر المواطنات والمواطنين بغلاء الأسعار ولا يتمكن الكثيرون منهم من تلبية احتياجاتهم المعيشية. جدير بالذكر أن مجلس الوزراء كان قد وافق فى الأسبوع الأخير من شهر إبريل الماضى على قرض بمبلغ ثمانية مليارات يورو لشراء قاطرات، هو على ما يبدو مرتبط بمشروع القطار الكهربائى. ليس واضحا إن كان القرض بمبلغ الاثنى مليار يورو هو مجرد جزء من القرض الأكبر أم لا. إن كان، فهو يعنى أن طلب يوم الأربعاء الماضى ستلحق به طلبات بالموافقة على قروض أخرى.
غنى عن الذكر أن مجلس النواب وافق على طلب وزير النقل. فى نفس اليوم ورد فى «الشروق» الغراء أن الدولة ستطرح للبيع إلى مستثمر أجنبى 10 فى المائة من أسهم الشركة المصرية للاتصالات بسعر للسهم الواحد يقل عن سعره فى ختام تعاملات الجلسة السابقة على الإعلان عن البيع. جدير بالذكر أن الشروق أضافت أن المصرية للاتصالات لم تكن ضمن القائمة الأولية للشركات التى قالت الحكومة إنها تعتزم بيعها كليا أو جزئيا.
القرض والبيع المتواكبان يستدعيان التعليق. فى انزعاجهم من طلبه سأل نواب معترضون الوزير عن أولويات الإنفاق العام مستنكرين أن يكون القطار الكهربائى من ضمنها. فى واقع الأمر، وزير النقل ليس مسئولا عن ترتيب أولويات الإنفاق العام. من الطبيعى أن يطلب لوزارته الموارد التى يقدِّر أنها بحاجة إليها لتضطلع بوظائفها. السلوك نفسه ينتظر من باقى الوزارات. التوفيق بين طلبات الوزارات والتحكيم فيما بينها يرجع إلى الحكومة المجتمعة بكامل هيئتها وإلى رئيسها، على ضوء مجمل الموارد المتاحة، وقدرة الدولة على الاقتراض بسعر فائدة معقول وعلى خدمة ديونها. من الحجج المستخدمة لترجيح كفة الموافقة على القرض أن فى الدول المحيطة بنا قطارات كهربائية ومصر ليست أقل منها. بهذا المنطق، فإنه ينتظر من الحكومة أن تقرر إن كان التنافس فى القطارات الكهربائية أجدى أم فى أنظمة التعليم حيث تقع مصر فى قاعدة بيانات «وايزفوتر» فى المرتبة الرابعة بعد المائة تسبقها بشكل متصاعد وعلى مسافات متفاوتة الكويت، وتونس، وقطر، والأردن، والجزائر، وجنوب إفريقيا، وتركيا، والبحرين، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وإسرائيل. هذه الدول الثلاث الأخيرة فى المراتب السادسة والأربعين، والثالثة والأربعين، والعشرين على التوالى.
• • •
ما يمكن أن تُطاَلبُ به وزارة النقل هو ترتيب أولوياتها هى. هل يتفوق النقل بالقطار الكهربائى بين موقعين قليلى السكان فى الأولوية على نقل الركاب فى وادى النيل المكتظ بالسكان فى شماله وجنوبه الذين يجدون أمامهم خطوط نقل حديدية متهالكة تتأخر بالساعات عن مواعيدها المضروبة وتتعرض للحوادث المتكررة؟ إذا كان القطار الكهربائى لتجارة الترانزيت فالولايات المتحدة نفسها لا توجد بها قطارات كهربائية لنقل البضائع. وإن كان الأمر يتعلق بنقل البضائع، أفليس الأَولَى تنمية هذا النقل بالسكك الحديدية العادية حيث يعيش جل السكان والمستهلكين على ساحل المتوسط وفى الدلتا ومصر الوسطى والعليا، فيخف الضغط على شبكة الطرق وترتفع بذلك درجة الأمان فيها؟ أليست تنمية النقل النهرى هى أيضا من الأولويات ليخفف هذا النمط من النقل بدوره عن شبكة الطرق؟ وماذا عن تجميع النقل فى داخل المدن وفيما بينها فى مركبات أكبر من تلك التى تملأ الشوارع وتشترك فى إرباك حركة المرور فيها باتخاذ قائديها لقرارات متضاربة لا نهاية لها لا تخضع لأى قاعدة أو معيار؟
أما عن طرح 10 فى المائة من أسهم الشركة المصرية للاتصالات للبيع إلى مستثمر أجنبى، وهى الشركة التى لم تكن ضمن القائمة الأولية للشركات المعتزم بيعها، فإن المرء يتساءل عن الحكمة من ذلك. إيرادات هذه الشركة ترتفع باستمرار وهى حققت أرباحا فى سنة 2022 أعلى بنسبة 9 فى المائة عما كانت عليه فى سنة 2021. ألا يمكن لنصيب الدولة من هذه الأرباح أن يسهم سنة بعد سنة فى خدمة مجمل الدين الخارجى، بما فى ذلك الدين المترتب على قرض القطار الكهربائى؟
• • •
أخيرا، يثورُ تساؤل. الاستثمار الأجنبى مرحب به، وبالذات المباشر منه الذى ينشئ أنشطة إنتاجية جديدة. سواء طرحت أسهم الشركة المصرية للاتصالات للبيع، ليحلّ مالك محل آخر، أم لم تطرح للاستفادة بالعائد الذى تدره، فلماذا لا يُجتَذَبُ استثمارٌ أجنبى مباشر لتمويل إنشاء خط القطار الكهربائى، إن سلمنا بأن له ضرورة قصوى؟ إن كان هذا الخط واعدا بالإيرادات والأرباح، فلماذا لا تَستَثمِرُ فى إنشائه نفس البنوك التى تقرض الحكومة المصرية، وضمان استثماراتها عند هيئتى تنمية الصادرات الألمانية والإيطالية؟ فى هذه الحالة ستُعفَى الدولة من عبء إضافى لخدمة الدين، وستكسب حصيلة الضرائب التى سيدفعها أصحاب الخط الجديد.
نرجو أن تجىء الأيام برد مقنع على هذا التساؤل.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة