قطع القاعة كلها ليقف أمامنا مملوءا بالانفعال مخاطبا إيانا على المنصة بأسمائنا. صرخ فينا طالبا العون بالفكرة: لم أتلق مرتبى منذ 7 شهور، وفعلت كل شيء من أجل الحصول على حقي، إضراب وأضربنا، مفاوضات ودخلنا، اتفاق وقبلنا، ولم يحدث شيء. طفرت دمعة من عينه وهو يشير إلى قدمه المرفوعة فى نعل ممزق، وهو يقول، بكل غضب وكل كرامة، إنه لا يستطيع حتى شراء واحد جديد. «محدش يكلمنا عن الأحزاب وخناقات الأحزاب. نعمل ايييه؟ أنا جيت هنا عشان أعرف هانعمل ايه. وحقنا هاناخده. هاناخده وبإيدينا».
كان اللقاء مساء أول أمس فى مقر نقابة المحامين بالسويس فى ضيافة لجنة حرياتها النشطة. امتلأت القاعة بممثلين لعمال مضربين من أكثر 5 مصانع وهيئات فى المدينة المشتعلة باعتصام الأربعين: نساء ورجال، شباب وكهول، وكلهم يخوضون مواجهات من أجل أن تمتد الثورة لتحسين حياتهم. عمال وموظفون من مصانع سيراميكا كليوباترا، ترست للنسيج، الترسانة البحرية بالسويس وغيرها. الجميع شاركوا فى ثورة الكرامة على خط معركة العدالة الاجتماعية، وبعضهم يحارب المعركة منذ 2006 مطالبين بحقهم فى أجر عادل ووظيفة دائمة.
القصة متشابهة للغاية فى كل المواقع. تكاد تكون متطابقة. فساد فى الإدارة، جور وعنت فى الأجر، استغناء عن عمالة..إلخ. ثم يلى ذلك احتجاج العمال على الأوضاع بالإضراب والاعتصام، بالشهور فى بعض الحالات، ثم مفاوضات مع الإدارة برعاية وحضور الجيش دائما ووزير القوى العاملة أحيانا. ثم لاتُحترم الاتفاقات من قبل الإدارة. «مين يقدر يجيب لنا حقنا بعد كدة؟ مفيش حل غير الطرق غير القانونية، وهمَّا بيقولوا علينا بلطجية كدة كدة»، قال محمد عبدالحكم من ترست للنسيج.
فى اليوم السابق على اللقاء، وبعد أن نفدت السبل أمامهم، قطع عمال سيراميكا كليوباترا، المملوك لرجل الأعمال محمد أبو العينين وهو العضو القيادى السابق فى الحزب الوطنى المحروق والمنزوع الشرعية بحكم الثورة والثوار، طريق السخنة. ُيخرج عمرو سليمان، العامل بالشركة، حبلا أبيض، وهو يحكى قصة فض الجيش لاعتصامهم فى الطريق بالقوة: «هاجمونا بمنتهى العنف. ثم اعتقلونا وربطونا بالحبال وأيدينا وراء ظهورنا ثم بدأوا فى ضربنا بالصواعق الكهربائية وهم يهتفون: الله أكبر». يؤكد عمرو سليمان، وهو سلفى يرتدى جلبابا أبيض ويطلق ذقنه، أن الفضل فى خروجهم من الاعتقال هو الناس اللى واقفة فى الأربعين «محدش تانى وقف معانا».
يضيف سليمان إن أبوالعينين قال لهم فى التفاوض إن المصنع يخسر وإنه إن رفع الأجور فعليه أن يفصل مئات العمال. ويرد العامل مستنكرا إن تكلفة الكارتونة من السيراميك فرز أول لاتزيد عن 7 جنيهات وتباع فى السوق بأكثر من 40 جنيها. ولا ينسى عمال المصنع الإشارة إلى حصول رجل الأعمال على غاز وكهرباء مدعومين من الدولة. «ألم يعطه نظام مبارك آلاف الأمتار من الأراضى بأسعار رخيصة؟». هذه أموالنا، يقول عامل آخر، فلتدخلنا الدولة بهذه الأموال شركاء فى المصنع لنصبح شركاء فى الربح كما نحن أصل الإنتاج. ويعد ثالث بأنه لوعين القضاء مفوضا قانونيا على المصنع «نقدر نشغل الشركات من غير أبوالعينين ولاغيره وأقل واحد هاياخد 1500 جنيه والمصنع هايكسب».
ويتحدث عامل قيادى من الترسانة البحرية ليتهمنى وكل أهل القاهرة، ومعه كل الحق: «فيه أنانية منكم وجور من الإعلام، محدش حاسس بينا ومحدش بيتكلم عننا». عمال الترسانة البحرية لم يتلقوا أجورهم منذ السابع من فبراير الماضي، ويشكون من التفرقة الهائلة فى الأجور والمزايا بينهم وبين موظفى هيئة قناة السويس، التى هم تابعون لها.
ويقارن عامل آخر مصر بفرنسا. «هناك العمال بتقف مع بعض فى الإضرابات عشان المصالح واحدة، وساعتها الدنيا كلها مضطرة تسمع ليهم». وتتعالى الصيحات بضرورة تبادل أرقام التليفون، «وطريقنا الإضراب العام ومش هانستنى لما رمضان ييجي»، يضيف صوت من القاعة.
يأخذ موظف بهيئة تابعة لوزارة الصحة، تم الاستغناء عنه وعن عدد من زملائه، الكلمة ليحكى تجربة شبيهة بكل الآخرين: إضراب وتفاوض واتفاق لم ُينفذ. يحدثنا عن نظرية «السوستة». ونظرية السوستة وفقا له هى منهج تعامل الحكام «القدامى والجدد» مع العمال: لازم تفضل دايس عليهم برجلك لحسن ينطوا فى وشك. وهاهم فعلوها.
هذه ثورة ثانية. بل هى الثورة الأولى. فالسويس هى ملخص فج لمصر كلها. هى من أعلى المحافظات فى متوسطات دخول الأفراد لكنها من أعلاها أيضا فى اتساع الفجوة بين الأعلى دخلا والأقل دخلا. السويس كانت معمل تجارب الليبرالية الجديدة فى كل إجراء اقتصادى معادى للفقراء كانت ترجو تعميمه على البلد كلها من دعم نقدى وغيره. قفزت السوستة فى وجه الجميع، ومن يوم 25 يناير. هى ثورتهم فى السويس وغيرها. صنعوها وهم أغلبية بلدنا ولن يسمحوا بألا يحصدوا ثمارها.
هى ثورة بلا أقنعة هذه المرة. ثورة تطالب بانتزاع الحق المشروع فى لقمة العيش الحرة وفى عدالة الفرصة وفى استقامة السلطة. ثورة أناس يعرفون طريقهم ولا ينقصهم الوعى ولا يحتاجون وصاية. ثورة ضد فئوية رجال الأعمال ونظامهم السياسى وحكوماتهم، المستمرين فى حكم مصر بتغليب مصالح القلة على مصلحة الكل.
سيدى العامل السويسي. أعذرنى فلم أعرف اسمك. لكنى لن أنساك أبدا لأنك ستغير بلادى للأبد، لى ولأولادى وللقاهريين «الأنانيين» الذين لا يعرفونك.