قالها أحد الأصدقاء الأعزاء المتشككين منذ زمان فى قدرة الثورة على النجاح: «الثورة ساحت فى الحر بعدما انقطعت الكهرباء»، ملخصا شعورا مظلما خيم بظلاله القاتمة على كثيرين فى الأسابيع الأخيرة، بعدما بدا أن المبادرة والفعل انحصرا مرة أخرى فى يد من لا يشفى غليل ولا يسعى لمأمول.
لكن هذا رأى آخر يجىء من بريطانيا، رأى لم يغرق رأسه فى مستنقعات معارك عكاشة وأبوحامد والحوينى ومبارزات الديكة الاستراتيجيين وأزمة المياه المعدنية. فى كتابه «لماذا تنطلق فى كل مكان؟ الثورات العالمية الجديدة»Why It Is Kicking Off Everywhere: The New Global Revolutions، يعتبر «بول ميسون» مصر جزءا من ثورة عالمية هادرة وليس مجرد مواجهة محلية عابرة مع الديكتاتور مبارك. يسوح بنا ميسون وهو المحرر الاقتصادى لهيئة الإذاعة البريطانية بى بى سى وصاحب واحد من أكثر الكتب مبيعا عن الأزمة الاقتصادية العالمية بين أناس وأماكن تبدأ بمصر وتونس وتعود للندن، قبل أن تأخذنا لمانيلا فى الفلبين واليونان والولايات المتحدة وإسبانيا، فى لغة تمزج التحقيق الصحفى بالتحليل السياسى والاقتصادى والمالى.
عطل فى نظام التشغيل
ما هو المشترك بين تمرد شوارع فى لندن واحتجاجات اليونانيين على إجراءات التقشف التى يدفع بها حكام يقولون إنهم يمنعون الدولة من الإفلاس؟ ما الذى يربط حياة سكان أوكلاهوما الأمريكية الذين يجاهدون من أجل منزل ووظيفة وموسى زكرى المصرى الذى يسكن فى المقطم؟ يتعرض ميسون فى كتابه سريعا للبعد الاتصالى المتعلق باستخدام الانترنت فى تنظيم الناس للاحتجاج، وهو ما كان سمة أساسية فى ثورات العرب وفى حركة «احتلوا» فى أمريكا وغيرها. لكنه، وبعد أن يعطى ميزات التنظيم الالكترونى قدرها، ينتقل لما يسميه «عطل فى نظام التشغيل» «Error De Sistema»، أو الأسباب الاقتصادية للتوتر الحالى». يتحدث ميسون عن تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية، التى لا نحسب لها حسابا عندما نتكلم عن مستقبل الرئيس مرسى أو دور المجلس العسكرى. «الآن وعبر العالم، سيكون هناك تقشف على نطاق غير مسبوق. من كاليفورنيا للقاهرة، من المؤكد أن الجيل الصاعد سيكون أفقر مما كان عليه. وحتى لو لم يحدث كساد مصحوب بانخفاض فى الاسعار على نمط الثلاثينيات، فإن بلادا كاليونان سوف تمر بمستويات تقشف مماثلة للثلاثينيات». ولهذا معان سياسية خطيرة: «برغم ذلك يبدو صناع القرار السياسى والاقتصادى غير قادرين على إعادة التفكير. فإطار التفكير الخاص بهم تشكل فى عالم كان فيه بنك ليمان بروزرز موجودا وأسعار العقارات دائما ما ترتفع. ويوجد هذا بدوره أزمة شرعية: تتقدم أحزاب اليمين واليسار غير الوسطية انتخابيا عبر أوروبا، هذه فقط هى قمة جبل جليد عدم الرضاء».
لن يحتمل العالم انهيارا اقتصاديا مماثلا للثلاثينيات ويبقى على حاله. «هذه هى المشكلة الحقيقية فى خطأ نظام التشغيل. فهو يطرح على كل أطياف المدرسة السياسية القديمة بديلا صارخا للغاية: إما أن تشق طريقا لعولمة جديدة أكثر مساواة وديمومة...أو تتراجع خلف المتاريس وتواجه حربا بين الطبقات على العدالة الاجتماعية وإعادة التوزيع»، كما يقول ميسون فى كتابه.
أيام تُغيِّر حياة
موسى زكرى، من سكان منشية ناصر، يعمل فى تمزيق بقايا العبوات البلاستيكية لشامبو من منتجات شركة بروكتر آند جامبل العالمية. لم تنجح الجهود المشتركة لبيل جيتس وبروكتر آندجامبل وسنوات حكم مبارك فى رفع طموحات موسى وفقراء القاهرة لما هو أكثر من نوع أفضل من الفقر. «لكن ٢١ يوما من الثورة غيرت الكثير». يتساءل بول ميسون: «هل سيحصل موسى على رعاية صحية، أجر يكفيه، تعليم لأطفاله كحق لا كصدقة؟ هذه أسئلة اعتقد نخبة السياسات أنها مقفلة لكن هاهى الثورة قد فتحتها». وضع موسى زكرى هو حال لين لين، التى يقابلها ميسون فى عشوائية بجابان بالفلبين. كما فى منشية نصر خلقت المدينة هناك مناطق أبارتهايد كابوسية على أساس طبقى. وفى المواجهة يتضامن الناس معا والسؤال الذى صار ملحا الآن هناك وهنا: «هل سنعيش حياتنا هكذا للأبد؟»
لقد فشل الخيال العالمى وفشلت حصافة صناع القرار وعقول جيوش المحللين والخبراء الاستراتيجيين فى رؤية ما ستجلبه الأزمة من مقاومة شعبية واسعة من ضواحى فرنسا لأزقة لندن وصيادى آسيا إلى فلاحى المكسيك وعمال ومهمشى ومهنيى مصر وتونس. «الآن انتهى عصر الأمر الواقع الرأسمالى. الأمور قد تنفجر فى أماكن من غير المحتمل أن يحدث فيها شىء، ومن ناس لم يتوقع أحد أبدا أنهم يمكنهم المقاومة».
لقد كان الاقتصادى النمساوى فريدريك هايك، وهو من أبرز أنبياء تحرير الأسواق، هو من قال إن العدالة الاجتماعية غير ممكنة وإن عدم المساواة والبؤس اللذين تنتجانهما الرأسمالية أخلاقيان ومنطقيان. وفقا له، على الإنسانية أن تقمع الاحساس بأن فوارق معينة بين الناس غير عادلة. «فعلينا أن ندرك أن نظاما نحتمل فيه هذه الفوارق الهائلة هو الوحيد القادر على إبقاء سكان العالم على قيد الحياة». يقول لنا ميسون إن أحداث ٢٠١١ هى تمرد على هذه الرؤية بعد أن كشفت أن الناس العاديين لديهم القدرة على إعادة تشكيل ظروفهم محققين فى أيام ما قد ينتجه التحول الروتينى فى عقود.
هذه معركة بين جمود المصالح وضيق الرؤية عند صناع القرار، ممن يقولون لنا إنه لا مجال للعدالة الاجتماعية الآن ويشتبكون فى معارك نفوذ بقواعد لعبة انتهت، وبين إنسانية وابداع وطموح ملايين تحت راية الحق والعدل وصاروا يمتلكون الإيمان والعلم بقوتهم. هذه معركة بين قصيرى النظر الباحثين عن موطىء قدم فى العالم القديم وبين كل طاقات المستقبل المفتوح على حرية القول والرزق. ونحن فيها قوة عالمية جبارة تمتلك كل مقومات النصر.