«افتح التلفاز، أو قلب فى صفحات الجرائد فى أى يوم عادى، وستجد نفسك محاطا بأخبار الفساد الحكومى، ومخالفات القطاع الخاص، وتجاوزات الشرطة التى تم عسكرتها وأخبار هجوم العصابات.
تدخل البلاد مرحلة جديدة، حيث يتم اعتقال أطفال المدارس، وحبس آخرين بسبب تغريداتهم على مواقع التواصل الاجتماعى، بينما يتعرض المواطنون الملتزمون بالقانون للتجسس من قبل الحكومة بوسائل التكنولوجيا الحديثة». الفقرة الفائتة ليست لى ولكنها منقولة بقليل من التصرف من مقال كتبه المحامى الأمريكى جون وايتهيد بعنوان «سياسات الخوف فى أمريكا: الدولة التى تحارب نفسها» ونشرها موقع HUFF Post فى الأول من أكتوبر عام ٢٠١٢ ليبدى فيها تخوفه من أن الصراع على السلطة بين الجمهوريين والديمقراطيين قد انعكس على شكل الحكم. أصبح الحكم يعتمد على بث رسائل الرعب وإخافة الناس ليمنعهم من التفكير العقلانى ويدفعهم بقوة نحو التمترس وراء التيارات المتصارعة. الهدف أن يلغى عقولهم ويطلق العنان لمشاعر الهيستريا والخوف وهو الهدف يهدد الحريات الليبرالية فى الولايات المتحدة ويؤثر على المستقبل. يطالب الكاتب المواطن الأمريكى بالتفكير العقلانى والفعل على أرض الواقع دون التسليم بالجلوس فى المنزل مذعورا ومراهنا على هذا الحزب أو ذاك من أجل حمايته.
وقعت عينى على هذا المقال أثناء وجودى بالولايات المتحدة قبل ثلاثة أعوام، متطوعا فى حملة أوباما الانتخابية فى ولاية نورث كارولينا. احتفظت بالمقال لأنه لفت نظرى إلى أن سياسات الخوف أو بمعنى أدق «التخويف» و«إفزاع» الشعوب تؤثر على سلوكهم السياسى. فهى تدفعهم نحو الانعزال عن المشاركة السياسية الإيجابية وتفويض من يثقون بهم ليقوم بكل المهام العامة بالنيابة عنهم، وهم فى ذلك مسلمون تماما بحق من تم تفويضه أن يقوم بأى أعمال حتى لو كانت منافية للدستور والقانون والحريات.
***
إذا كان هذا السلوك السلطوى الذى يرى فى إخافة الناس فرصة للحصول على تفويض غير مشروط من الشعب يحدث فى الولايات المتحدة وهى الدولة الديمقراطية المستقرة، فيكون من المتوقع قطعا أن نجده فى الدول الأقل ديمقراطية والتى لم تستقر بها مفاهيم الدستور والقانون والحريات بعد. أما فى مصر، وهى الدولة الباحثة عن ذاتها بين مطرقة الثورات وسندان الاستقرار، بين الرغبة فى مقاومة التطورات العصرية والعودة إلى الوراء والآمال العريضة للتقدم والتنمية، بين تنازع المؤسسات الأمنية والتيارات السياسية على الحكم، فإن سياسات تخويف وإفزاع الناس لم تتوقف لحظة منذ أن تم اطلاق البلطجية والمساجين فى الشوارع لإخافة الناس من الفوضى، التى تنتظرهم حال تنحية مبارك ومرورا باستفتاء الجنة والنار وغزوة الصناديق والإسلام الذى يتم محاربته بإزاحة مرسى عن الحكم ووصولا إلى استخدام فزاعات الإرهاب والجيل الرابع وصولا إلى السابع من الحروب.
فى الأيام القليلة الماضية، كتبت إحدى الإعلاميات الشهيرات مقالا بجريدة الوطن فى ٢٨ أغسطس الماضى بعنوان «وأخيرا.. حروب الجيل السابع» تبشر الناس بأنها من أوائل من يتحدث عن هذا الاكتشاف الخطير، ثم وفى ثنايا المقال تتحدث عن تجربة أجرتها المخابرات الأمريكية طوعا على ٢ مليار مواطن «لاحظ الرقم أولا ثم لاحظ انه تم طواعية» لاكتشاف تأثير ما أسمته الكاتبة «شرائح التحكم البشرى» على البشر. تقول الكاتبة، إن التجربة نجحت وأن المخابرات الأمريكية تسعى الآن لتعميمها. لعلك تعتقد أنها نكتة سخيفة أو ربما نوع من أنواع السخرية، ولكن إذا ما قمت بمراجعة المقال ستكتشف أنها جادة للغاية وأنها تنسب هذه الخزعبلات لما تسميه «معلومات لدى متخصصين».
بعدها بأيام قليلة، تحدث رئيس الجمهورية للمرة الثالثة فى خطاب رسمى عن حروب الجيل الرابع «لاحظ أن كاتبتنا الموقرة أصبحت فى الجيل السابع، بينما مازال الرئيس عند الجيل الرابع فقط»، لطلاب الكلية الحربية بعد عودته من جولة آسيوية، طالبا منهم أن يتحدثوا عن هذه الحروب مع أهلهم وأصدقائهم فى الإجازات التى يحصلوا عليها منبها الطلاب لخطورة هذه الحروب وتدميرها للدول التى وان تهددت أحداها لا تعود مجددا.
***
ثم كانت خاتمة الأسبوع بحديث لما يصفه الإعلام بـ «خبير عسكرى واستراتيجى» وهو لواء سابق بالجيش وشغل منصب مدير مركز الدراسات الاستراتيجية بالقوات المسلحة، بحسب ما قدم نفسه فى إحدى حلقات برنامج «من الآخر» على فضائية «روتانا مصرية»، وقد تحدث ومعه ضيف آخر عرف نفسه على أنه أستاذ فلسفة عن ما يسمى بحروب الجيل الخامس «متقدما بجيل عن حديث الرئيس ومتأخرا بجيلين عن حروب الإعلامية المذكورة»، موضحا أن هذه الحروب يقودها ما سماه «مجلس أعلى للعالم» يستطيع توجيه النيازك والأعاصير والبراكين على الدول التى يريد إيذاءها وقطعا مصر فى مقدمة هذه الدول.
يرى البعض أن الرد على هذه التخاريف مضيعة للوقت، ولكنى أرى أن الرد مهم للغاية لأربعة أسباب رئيسية:
أولا: إن الكلام لا يتردد فقط بواسطة حفنة من الإعلاميين والكتاب، ولكنه يتردد بواسطة السلطة أيضا. صحيح أن الرئيس لا يعطى معلومات تفصيلية عن الموضوع بينما يقوم الإعلاميون و«الخبراء» بهذه المهمة مما يودى بالفعل لاقتناع الناس وشعورهم بالخوف من هؤلاء الأعداء المجهولين ومن قواهم الخارقة، فيعطوا إجازة لعقولهم ولإراداتهم السياسية معولين على آخرين مهمة حمايتهم بلا شروط أو قيود.
ثانيا: لأن هذا الكلام يتردد أيضا بواسطة ما يمكن أن نسميهم النخب من مثقفين وأكاديميين وكتاب رأى، يفعل البعض هذا بانتهازية وبمنطق «طالما الرئيس قال لازم احنا كمان نقول»، أو بحسن نية شديدة كأن تجد صديقا ينبهك إلى أن هناك مقال شارد أو ورقة بحثية تتحدث عن هذه الحروب وعن هذه القوة الخارقة. ينسى أصدقاؤنا أصحاب النيات الطيبة أن المشكلة ليست فى التوثيق العلمى لهذه الأساطير ولكن فى طريقة استخدامها وتسييسها من أجل افزاع الناس وانتزاع إرادتهم السياسية وتأميم وعيهم العام. ينسى أصدقاؤنا أن الأصل فى مناقشة هذه النظريات فى المحافل الأكاديمية الجادة «إن ناقشتها من الأصل» هو الانتقاد الحاد لأبسط أفكارها المبنية على تصورات وهمية لا تصلح سوى لقصص الأطفال عن «أمنا الغولة» أو «أبو رجل مسلوخة». وأنها ظهرت فى سياقات مخالفة تماما للسياق الذى تريد سلطتنا ونخبتها الطيعة أن تضعنا فيها.
ثالثا: لأننا يجب أن نذكر دائما أن الدول المتهمة بالقيام بهذه المؤامرات ضدنا هى التى اخترعتها بالأساس، ثم إنها جميعا دول «حليفة» وليست مجرد «صديقة» نحصل منها على معونات بل والأغرب على «سلاح»، فلماذا نأخذ أسلحتنا من متآمرين؟ لن يرد أحد قطعا كالعادة. الرد على هذه الترهات مهم أيضا لأننا لا ننكر إمكانية أن تتعرض مصر، شأنها فى ذلك شأن أى دولة كبرت أو صغرت، لمؤامرات، ولكن المهم أن نضعها فى حجمها الطبيعى وأن نرد عليها بمزيد من الانفتاح والتعددية والحرية لا بمزيد من القمع والتأميم.
***
أنهى صاحبنا المحامى الأمريكى مقاله بعبارة «المطلوب إذا ألا نخاف. لن تتحسن أحوالنا إلا بعد أن نتخلص من أوهام الخوف. أن نتصرف بشجاعة. أن نفكر بشكل مختلف، أن نتحدث بصوت عال، أن نواجه الأوضاع غير العادلة مهما كلفنا الأمر». وننهى مقالتنا بالتأكيد على أن تقدم مصر وتنميتها مرتبط ارتباطا وثيقا بالتحرر من الخزعبلات والأساطير والخوف والتفويض، والانطلاق نحو التفكير العقلانى الرشيد والتعددية الفكرية والمجتمعية والسياسية والإرادة الحرة، وبغير ذلك فإننا نحارب أنفسنا بأنفسنا، وهى حرب خاسرة للجميع لن تبنى وطننا.