احتفلت مصر منذ أيام بذكرى السادس من أكتوبر 1973. وكما هى العادة فى كل عام، كان اليوم عطلة رسمية، ووجه الرئيس خطابا متلفزا إلى الشعب فى اليوم السابق، وتسابقت الصحف فى التذكير بالبطولات التى ظهرت فى حرب أكتوبر، ولم يفتها أن تشير إلى ذكرى بعض من فقدوا حياتهم فى هذه الحرب، وخصوصا الشهيد الطيار عاطف السادات شقيق الرئيس الراحل أنور السادات. وواكب التليفزيون والإذاعة هذا اليوم بما هو معهود منهما من برامج وأحاديث. وقد كان الخط الرئيسى فى كل هذا الخطاب الإعلامى والرسمى هو الإشادة بنصر أكتوبر. ونظرا لأن الحقيقة فى العادة لها أكثر من وجه، فإن هذا الأسلوب فى الاحتفاء بهذا الحدث هو أقل بكثير من قيمة الحدث فى حد ذاته. ذلك أن التقدير الحقيقى لمثل هذه الأحداث الكبرى فى تاريخ الأمم هو فى تأمل وجوهها المتعددة، بجوانبها الإيجابية والسلبية، واستخلاص العبر منها، حتى يتعاظم الرصيد الإيجابى الذى خلفته، ويقل، إذا كان ذلك ممكنا، أثرها السلبى.
ولا يعنى هذا الموقف النقدى من مثل هذه الأحداث المهمة العزوف عن ذكر البطولات والتضحيات، فنحن فى أشد الحاجة لها، خصوصا فى هذا الوقت العصيب الذى يستبد فيه اليأس بالنفوس ولا نكاد نرى إنجازا ذا قيمة على امتداد الوطن العربى من المحيط إلى الخليج.. فى الوقت الذى تمكنت شعوب ــ لا تملك مثل ثروات العرب ــ من قهر تراث التبعية العلمية والاقتصادية والسياسية وفرضت نظاما دوليا بازغا متعدد الأقطاب، بينما استمرأت الحكومات العربية تبعيتها الاقتصادية وسلمت معظمها بتبعيتها السياسية كذلك. ولكن الأمم التى تسجل بصماتها فى كتاب الحاضر وفصول المستقبل هى تلك التى تملك الشجاعة لترى كل جوانب ما مر عليها من أحداث عظام..
أوجه النصر فى أكتوبر:
لاشك أن أكتوبر كان نصرا فى بعض جوانبه. كان فى المقام الأول نصرا نفسيا حطم تلك الأسطورة التى درجت الدعاية الإسرائيلية على ترديدها منذ هزيمة يونيو 1967، وهى أن الجيش الإسرائيلى لا يقهر، وأن العرب هم مجرد «ظاهرة صوتية» يجيدون الخطابة، ويستسلمون لأحلامهم وعواطفهم، ولا يملكون القدرة على التحليل الواقعى الرشيد. أثبتت المبادرة الاستراتيجية المشتركة للقوات المصرية والسورية، والتخطيط الناجح لشن الضربة الأولى على الجبهتين أن العرب يعرفون أيضا إجادة فن الحرب الحديثة بكل ما تقتضيه من إعداد متنوع الجوانب سياسيا واقتصاديا وإعلاميا وعلميا. كما أظهرت أيضا أن التضامن العربى ليس مجرد خطاب إعلامى، ولكنه يترجم عند اللزوم بمشاركة واسعة فى المجهود العسكرى، وباستخدام مواز لما يملكه العرب من عناصر القوة الاقتصادية وفى مقدمتها النفط.
هذا هو وجه النصر الخالص والذى يبقى على الدوام الذكرى العطرة لهذه الحرب، ولكن أوجه أكتوبر الأخرى ليست نصرا خالصا، وتستحق أن نستخلص منها الدروس.
انقلاب الكفة فى أكتوبر وبعدها:
فلنأخذ الجانب العسكرى فى معارك أكتوبر. لقد بدأت الحرب والقوات الإسرائيلية متواجدة على الضفة الشرقية للقناة، وانتهت والقوات الإسرائيلية تحتل شريطا على الشاطئ الجنوبى الغربى للقناة، وقسم من الجيش الثالث محاصر على الضفة الشرقية للقناة.. وقوات مصرية تحتل شريطا على الشاطئ الشمالى الشرقى للقناة. صحيح أن القوات الإسرائيلية نفسها كانت فى موقف صعب بعد عبورها قناة السويس، وكان يمكن أن تتعرض لضربات مضادة، وأن حصار الإسرائيليين للجيش الثالث لم يكن محكما تماما. ومع ذلك فإن هذا العبور للقوات الإسرائيلية شكل ولاشك عنصر مساومة مهما فى مفاوضات فك الاشتباك التى جرت عند الكيلو 101 على طريق القاهرة السويس بعد انتهاء العمليات العسكرية، وكشف عن ثغرة ليس فقط فى إدارة المعركة من جانب القيادة المصرية، ولكن أيضا عن قصور فى الخيال. كان التنسيق مفتقدا بين قيادة الجيشين الثانى والثالث، وهو ما سمح للقوات الإسرائيلية بقيادة أرييل شارون أن تستغل ضعف التواجد على جانبى كل من الجيشين للمرور بينهما إلى الشاطئ الغربى للقناة، وصورت القيادة المصرية ما جرى على أنه معركة تليفزيونية، وأخفقت فى إدراك القيمة المعنوية والسياسية لهذا العبور الإسرائيلى، أو هكذا تظاهرت.
وإذا ما انتقلنا إلى الجانب السياسى لحرب أكتوبر، وتذكرنا المواقف العربية قبلها، فلا شك أن شعورا بالمرارة لابد أن يتملكنا. لقد كان الموقف الذى ارتضته الحكومات والشعوب العربية بعد هزيمة يونيو وفى قمة الخرطوم هو الموقف المعروف باللاءات الثلاث: «لا للتفاوض ولا للاعتراف بإسرائيل ولا للصلح معها». ولكن أكتوبر على الجانب المصرى كانت مقدمة للتفاوض مع إسرائيل بعد انتهاء الحرب مباشرة لضمان جلاء قواتها عن غرب القناة، وصلح فعلى معها بموجب اتفاقية فك الاشتباك الثانية فى سنة 1975، والتى مهدت لفتح قناة السويس للملاحة من جديد وتعهد مصر ألا تلجأ للقوة المسلحة فى تسوية أى نزاع لها مع إسرائيل. ثم جاء الاعتراف والصلح بموجب ما سمى بمعاهدة السلام بين البلدين، والتى وقعت فى البيت الأبيض فى مارس 1979 وصحبها تبادل السفراء. ولابد أن يثور السؤال: هل كانت مصر ستحصل على شروط أسوأ فيما لو كانت حكومتها قد أعلنت رغبتها فى الصلح مع إسرائيل قبل حرب أكتوبر؟ وهل تساوى المعاهدة غير المتكافئة فى التزاماتها والتى وقعتها الحكومة المصرية مع إسرائيل كل التضحيات المصرية والعربية فى هذه الحرب؟
صحيح أن مسألة الإدارة السياسية لهذه الحرب من جانب القيادة المصرية وما جرى بعدها انتهاء بمعاهدة 1979 هو قضية خلافية، وهناك من القيادات الإعلامية من يعتبر أن ما فعله السادات كان ضربا من العبقرية السياسية السابق لأوانه. ولكن ألم تكن هذه التنازلات التى انتهت بصلح منفرد بين مصر وإسرائيل هى النتيجة المحتملة لتخلى الحكومة المصرية عن معظم عناصر القوة التى امتلكتها خلال أيام هذه الحرب؟ بتسليمها أولا مسئولية إيجاد مخرج لما لم تحسمه المعارك العسكرية ليد هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى منفردا، وبتنحية الاتحاد السوفيتى، ثم ببذل المساعى لدى الحكومة السعودية لوقف حظر تصدير النفط العربى إلى الولايات المتحدة والدول المساندة لإسرائيل، ثم بالانسحاب من معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتى فى سنة 1976، والذى كان المصدر الأساسى لسلاح القوات المصرية والعربية الذى خاضت به حرب أكتوبر، وألحقت هزائم بالقوات الإسرائيلية البرية والجوية؛ وأخيرا بانهيار الموقف التفاوضى المصرى ما بين لقاء الإسماعيلية فى أواخر سنة 1977، ومفاوضات كامب دافيد وبلير هاوس سنتى 1978 و1979.
هل كان أحد يتصور فى أكتوبر 1973 أن تؤدى البطولات الخارقة للجنود والضباط المصريين بعد أقل من ست سنوات على انتهاء هذه الحرب إلى إقامة سفارة إسرائيلية فى القاهرة، وصادرات نفطية تقدر بمئات الملايين من الدولارات تزود بها مصر إسرائيل بما فى ذلك آلتها الحربية، وأن تقبل القاهرة صاغرة حصار إسرائيل الوحشى للأشقاء الفلسطينيين على حدودها فى غزة، وأن تكتفى بمراقبة القوات الإسرائيلية وهى تدك أنفاقا حفرها الفلسطينيون ليحصلوا من خلالها على حاجاتهم الأساسية ولا تحرك الحكومة المصرية ساكنا، بل وتعاقب من يجرؤ على السفر إلى غزة من مواطنيها للتضامن مع شعبها الصامد. وأن تصبح مصر ليست قائدة معسكر العزة العربى، وإنما العاصمة التى يهجرها العرب لأنها تخلت ومنفردة وبمبادرة منها عن مواقف عربية مشتركة!
ولا يقف الشعور بالمرارة فقط عند الجوانب العسكرية والسياسية فى حرب أكتوبر، ولكنه يمتد أيضا إلى جوانبها الاقتصادية. لقد تزامنت حرب أكتوبر مع قرارين غيرا من علاقات القوة المالية فى العالم وفى الوطن العربى، وهما وقف تصدير النفط العربى إلى الدول المساندة لإسرائيل والذى سبق التنويه عنه، ثم رفع منظمة الدول المصدرة للنفط أسعاره بأربعة أمثالها. وقد تراكمت لدى الدول العربية المصدرة للنفط مئات البلايين من الدولارات نتيجة هذه القرارات، وما جرى بعدها فى أسواق النفط العالمية. ولكن هل تحولت القوة المالية الضخمة التى حصلت عليها هذه الدول إلى قوة اقتصادية حقيقية؟ هل ظهرت نمور فى أى من الدول العربية من المحيط إلى الخليج؟
لقد انقسمت الدول العربية بين دول غنية وأخرى فقيرة، ثم أهدرت بعض الدول الغنية ثروتها فى حروب خارجية لا مبرر لها مثل العراق، أو فى مغامرات خارجية لا معنى لها مثل ليبيا أو فى فساد لا سابق له كما فى الجزائر، وتساوت كل الدول العربية غنيها وفقيرها فى ما يصدر منها العمالة وما يصدر منها النفط فى تبعيتها المفرطة للسوق العالمية، يتقلب حظها معه، دون أن يسجل أى منها إنجازا يضاهى ما حققته دول فقيرة بالنفط والمال، ولكنها غنية برأسمالها البشرى والرؤية الحكيمة لقياداتها ورشادة الحكم فيها وتحديدها الدقيق لأهدافها ومثابرتها فى بلوغها كدول شرق آسيا صاحبة المعجزة الاقتصادية الحقيقية فى عالم الجنوب.
ألا يستحق أكتوبر المجيد منا أن نقرن ذكر البطولات بتـأمل أسباب العثرات واستمرار النكبة؟