النظام السياسى فى أى بلد يقوم أصلا لتحديد سبل الوصول إلى حل المشكلات التى تعترض سبيل الجماعة الوطنية فيه، وللحفاظ على تماسك هذه الجماعة، ولتيسير أسباب التقدم أمامها. ليس الدستور، ولا القوانين، ولا السياسات أهدافا فى حد ذاتها، وإنما هى وسائل تمكن من تحقيق أهداف النظام السياسى. والمشكلات التى تعترض حياة المجتمع المصرى عديدة من الفقر، إلى الأمية، إلى نقص المعرفة وتدهور مستواها، إلى الانتقال، وما يشمله من مرور وحوادث سير ووسائط نقل، إلى البيئة، وما تعنيه من ظروف سكن وقمامة وقذارة وتلوث محيط. هذه المشكلات وغيرها لا يمكن حلها حلولا جادة وحقيقية لا فى مائة يوم ولا فى مائة أسبوع، وإنما هى تحتاج إلى تحليل منهجى وتخطيط، وعمل دءوب، وهى تتطلب أول ما تتطلب قيام النظام السياسى الكفيل بالتقدم نحو حلها.
الدستور، باعتباره حجر الزاوية فى إنشاء النظام السياسى، يصبح بذلك المسألة الأولى التى تواجه إنجازها الجماعة الوطنية المصرية فى الوقت الحالى. غير أن هناك مسألتين حيويتين أخريين تواجههما الجماعة المصرية، ولا يمكن لهذه الجماعة أن تنتظر نشأة النظام السياسى الجديد وتدربه على القيام بوظائفه للتصدى لهما، ألا وهما مسألتا تكامل الأراضى المصرية والاضطلاع بوظائف الدولة فى سيناء، من جانب، وتماسك الاقتصاد المصرى ووفائه بالاحتياجات المعيشية للمواطنين، من جانب آخر. التصدى للمسائل الثلاث تجمعها ضرورة واحدة وهى تحقيق التوافق بين أغلبية معتبرة من القوى السياسية والاجتماعية.
الدستور، يمكن تصوُر تمريره بموافقة ستين بالمائة من المشاركين فى أى استفتاء عليه، وهؤلاء المشاركون لن يتعدُوا الخمسين بالمائة ممن يحق لهم التصويت إلا بالكاد. هل يمكن لدستور معتمد بمثل هذه الأغلبية أن يؤسس لنظام سياسى فعال وكفء فى الاضطلاع بوظائفه وفى تحقيق أهداف الجماعة الوطنية المصرية فى القرن الحادى والعشرين؟ لا يمكن الاعتداد بالمشروعية التى يوفرها الدستور، واللجوء بالاستناد إليها إلى وسائل القسر المتوافرة للدولة، لتأمين الفاعلية والكفاءة للنظام السياسى. هل سيفيد دستور تعترض نسبة مهمة من السكان عليه فى تشكيل الأغلبيات الضرورية لتطبيق السياسات، وليس فقط لصياغتها، الكفيلة بتيسير أسباب التقدم، وبحل مشكلات الفقر، والأمية، والمعرفة، والانتقال، والبيئة، وغيرها؟ هل سينفع مثل هذا الدستور فى التصدى لمطالب العمال والموظفين بتحسين أجورهم وظروفهم المعيشية؟ ماذا إن لم يكن العمال أو الموظفون موافقين على أحكام الدستور أو إن لم تكن هذه الأحكام كفيلة بسن القوانين وصياغة السياسات الضرورية لهذا التصدى؟ هل يقمع العمال والموظفون مثلا لضمان تطبيق السياسات وقبولهم لها؟ لقد انتهى زمن القمع الممنهج، ليس فقط لانحداره الأخلاقى، ولكن لأنه لم يصبح ممكنا، فلقد انكشف خواء أدواته وفقد فاعليته. وإلا، فلماذا لم تستخدمه الحكومة وتعمل وسائل القسر المتاحة لها نظريا فى فرض تطبيق قرارها بإغلاق المحال التجارية فى ساعة محددة؟ أى دستور يمرُ عنوة سيكون دستورا شكليا لن يفيد البلاد فى شىء بل سيكون معولا فى تقويض تماسك الجماعة الوطنية. التوافق على أحكام الدستور ضرورة عملية قبل أن تكون اعتبارا يتعلق بالمبادئ. والتنافس فى الأنظمة الديمقراطية التعددية لا يجىء إلا بعد أن تكون القوى السياسية والاجتماعية قد توافقت على أسس قيام هذه الأنظمة.
المسألة الحيوية الثانية هى تلك الخاصة بسيناء، وبانحسار سلطة الدولة عنها، وبفشلها فى الاضطلاع بوظائفها فيها. هذه فى حد ذاتها مشكلة فى التكامل الوطنى، ولكن تقدير خطورتها على التكامل الوطنى يزداد بالنظر إلى متاخمة سيناء لإسرائيل، وإلى سابق احتلال اسرائيل لها، وإلى تأثر سيناء، بالضرورة، بتطورات الصراع العربى الإسرائيلى، وبصفة خاصة ما يتعلق بشقه الفلسطينى. المجموعات المسلحة تتمتع بحرية الحركة فى سيناء، وهى تمارس العنف وتتحدَى الدولة فيها. أى دولة تسمح بالانتقاص من تكاملها الوطنى وبتهديد سلامة أراضيها؟ الدولة فى مصر تناور وتسايس، وهى خيرا تفعل. الدولة نشرت قواتها المسلحة فى شمال سيناء وهى تعمل على صيانة تكاملها وسلامة أراضيها بقوة السلاح، وبالتواصل فى الوقت نفسه مع المجموعات المسلحة. غير أن هذه الاستراتيجية لا يبدو أنها تؤتى ثمارا فالعنف مستمر والقتل لم يتوقف. ما الذى ستفعله الدولة إن تصاعد العنف وثبت بمرور الوقت فشل الاستراتيجية المتبعة، سواء من حيث مضمونها، أو من حيث الأدوات المستخدمة فى تطبيقها؟ ثمة توافق عام بين القوى السياسية على تعديل الأحكام الخاصة بالترتيبات الأمنية فى سيناء الواردة فى اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية. من شأن هذا التوافق أن يوفر قاعدة متينة للنظام السياسى المصرى عندما يطالب بتعديل الأحكام ذات الصلة فى الاتفاقية. ولكن هل يوجد التوافق نفسه بشأن التعامل مع المجموعات المسلحة فى سيناء، سواء بالقوة أو بالسياسة؟ لكل شكل من شكلى هذا التعامل، ولمقدار كل منهما، تكلفة سياسية، أو بعبارة أخرى لكل منها ثمن يدفع من تأييد هذه المجموعات أو تلك من المواطنين، فهل توجد قوة سياسية على استعداد لأن تدفع ثمن هذا التعامل وحدها؟ التوافق بين القوى السياسية ضرورة لبناء الأساسات اللازمة لسياسة وطنية تصون التكامل الوطنى، وتحمى سيناء، وتحافظ على سلامة الأراضى المصرية.
المسألة الثالثة هى الاقتصاد وأداؤه، وهى يمكن أن تكون المسألة الأولى فبغير اقتصاد معقول، لن ينشأ نظام سياسى قابل للاستدامة ولن يمكن لهذا النظام أن يضطلع بوظائفه، سواء فى سيناء أو فى غيرها. الاقتصاد يثير قضية التنمية المبتغاة، وهى قضية تخصُ مستقبل مصر والمصريين فى القرن الحادى والعشرين، وهى بذلك تحتاج إلى التوافق الضرورى لاعتماد دستور فعلى، وكفء وفعال. غير أن هناك الضرورات المباشرة والملحة لاتخاذ القرار السياسى فى شأن تسيير الاقتصاد. مثال واحد على هذه الضرورات هو القرار الخاص بمواجهة العجز فى الميزانية العامة للدولة وبتوفير الموارد المالية من العملات المحلية والأجنبية الضرورية لتوفير احتياجات المواطنين من الغذاء، والملبس، والمسكن، والصحة، وغيرها، دون شحة ودون ارتفاع فى الأسعار يستحيل على المواطنين فى ظله تلبية احتياجاتهم. أول ما فكرت فيه الحكومة هو أن تطلب قرضا من صندوق النقد الدولى يعينها فى تطبيق سياستها المالية، وقيمة هذا القرض ما يراوح الثلاثين مليار جنيه، أى أقل من عشرين بالمائة من العجز المقدر فى ميزانية السنة المالية الجارية. تعالت الأصوات تندد بفكرة طلب القرض، بينما أيدت أصوات أخرى فكرته. الأصوات الأولى تشدد على أن الدولة لم تغير شيئا فى بنية كل من الإيرادات العامة والإنفاق العام، وهاتان بنيتان كانتا من أسباب الثورة المصرية، بينما تركز الأصوات الأخرى على انخفاض تكاليف القرض الخارجى مقارنة بالاستدانة الداخلية، وعلى ما سيترتب على قرض صندوق النقد الدولى من تعزيز فى الثقة فى الاقتصاد المصرى يؤدى إلى تدفق الاستثمارات إليه. للفريقين حججه وليس هذا مجال الحكم عليها، وإن كان الحل لا بد أن يشمل مزيجا من الوصفات التى يقول بها أنصار كل من المعسكرين. غير أنه أيا كان هذا الحل فهو سيكون له معارضوه، وهو بالتالى ولكى يمر ويصمد لا بد أن يستند إلى قاعدة من التوافق السياسى والاجتماعى تستطيع أن تدافع عنه وأن تروج له. السبب فى الشلل الحالى وفى العجز عن اتخاذ قرار سياسى بشأن الاقتصاد يرجع إلى غيبة قاعدة معتبرة من التوافق السياسى والاجتماعى.
هو لبُّ الديمقراطية، وهو الجوهر فى طرائق عمل النظام السياسى التعددى. التوافق والنظام التعددى صنوان، لايقوم واحد منهما دون الآخر. والنظام السياسى التعددى بهذا المعنى، ليس خيارا يقبل أويرفض. الأنظمة السياسية التعددية هى انعكاس للأنظمة الاجتماعية التعددية، وتمكين لها من الازدهار من أجل مصالح جماعاتها الوطنية. والتعدد فى الأنظمة الاجتماعية واقع لا يمكن أن يكبت فى ظل تكنولوجيا القرن الحادى والعشرين، وتفجر مصادر المعرفة وقنواتها فيه.