وصف كثير من الكتاب الغربيين الحركة الاجتماعية التى أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والحركات اليمينية المماثلة فى غرب أوروبا بالحركات الشعبوية. وبداية أعتذر للقارئ عن استخدامى لهذا المصطلح «الشعبوية» الذى يبدو ثقيل السمع على الأذن العربية، ولكن ما حيلتى وهو المصطلح الذى شاع فى الكتابات العربية ترجمة لكلمة Populism التى يشير بها الباحثون الغربيون لتلك الحركات السياسية التى يتوجه قادتها مباشرة إلى جماهير المواطنين متخطين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى من نقابات عمالية ومهنية وجمعيات أهلية ودون أن يولوا أى اعتبار لانقسامات طبقية فيما بينهم، فمن يتحدثون إليهم هم أمريكيون أو فرنسيون أو هولنديون أو ألمان أو بريطانيون الأصل، وذلك على أساس تعريفهم الخاص لمن يصلح مواطنا كامل العضوية فى الوطن الأمريكى أو الفرنسى أو الهولندى أو الألمانى أو البريطانى، ولذلك فعلى الرغم من أن خطابهم يتوجه إلى كل المواطنين ويبدو فى حقيقة الأمر اشتماليا، إلا أنه فى الواقع هو خطاب إقصائى بامتياز يشمل فقط من ينطبق عليه تعريفهم فلا يمكن أن يكون مواطنا صالحا من جاء من أصول لاتينية فى الولايات المتحدة، أو من أصول عربية فى فرنسا أو مسلما فى الوقت الحاضر فى ألمانيا أو فرنسا أو من أصول بولندية فى بريطانيا، ولذلك فمن الصحيح وصف هذه الحركات الشعبوية بالعنصرية، دون أن يعتبر هذا التوصيف نوعا من التنديد السياسى أو الإيديولوجى بها، أو منطلقا بالضرورة من موقف سياسى معاد لها.
ولأن خطاب هذه الحركات يتوجه مع ذلك لهؤلاء المواطنين الأصل على اختلاف خلفياتهم الطبقية والمهنية والإقليمية، منهم عمال وأصحاب عمل، ومزارعون ومهنيون، فقراء وأغنياء، شباب ومتقدمون فى السن، رجال ونساء، ولهم أصول ثقافية متباينة حتى ولو كانوا كلهم ينتمون إلى عرق واحد، فكلهم بيض فى الولايات المتحدة وأوروبا، ولذلك يحاول قادة هذه الحركات تخطى هذه الاختلافات بإطلاق الوعود الجذابة لكل منهم وبادعاء مصلحة عامة تجمعهم جميعا دون تعريف واضح لهذه المصلحة العامة، مثل استعادة قوة أمريكا، أو الدفاع عن الهوية الوطنية النقية بالتخلص من التهديد الثقافى الذى يمثله وجود أقليات ذات أصول أجنبية فى هذه المجتمعات. ولأن هناك مثل هذه الاختلافات بين من يتوجه إليهم خطاب هذه الحركات، فصياغة برنامج سياسى واقتصادى واضح المعالم أمر صعب لأنه لابد أن يصطدم باختلاف المصالح بين جماهير هذه الحركات، فلا يمكن له أن يستجيب لكامل مطالب كل منها، ولذلك يكتفى قادة هذه الحركات بإطلاق وعود براقة يمكن أن تكون متناقضة على أرض الواقع، ولكنها تكفى لاجتذاب المواطنين لتأييدها، وترفق ذلك بخطاب عاطفى يدغدغ مشاعر هؤلاء المواطنين.
ونظرا لأن هذه الوعود غير واقعية، كما أجمعت معظم الكتابات فى الولايات المتحدة، بل وكما أشارت لذلك بعض التلميحات عما ينوى الرئيس المنتخب فعله فى شهوره الأولى فى البيت الأبيض فإن أول من سيصاب بخيبة الأمل فى أدائه هم نفس المواطنين الذين صوتوا له منجذبين إلى وصفه للرئيس أوباما بأنه المسئول عن كل الكوارث التى أحاقت بالولايات المتحدة فى الداخل والخارج، ومع ذلك فسوف يدفعه الواقع الاقتصادى والسياسى إلى تبنى الكثير من سياسات أوباما، أو العدول تماما عن بعض وعوده الانتخابية. وربما يتذكر القراء الصدمة التى شعر بها البريطانيون بعد أن صوتت غالبية منهم لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبى، وتحت تأثير الخطابات الملتهبة لبوريس جونستون القائد العمالى وعمدة لندن السابق ونيجل فاراج زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة اللذين قادا حركة شعبوية فى بريطانيا، فقد أدرك البريطانيون حجم الخسارة التى ستلحق بدولتهم عند انسحابها من الاتحاد الأوروبى، ولذلك فإن الحكومة المحافظة التى تشكلت بعد استقالة رئيسها السابق الذى كان مناصرا لبقاء بريطانيا فى الاتحاد الأوروبى تجر قدميها قبل أن تدخل فى مفاوضات مع الاتحاد لترتيب خروجها منه. وليس أدل على أن الذين صوتوا لصالح الخروج من الاتحاد انجذبوا لخطاب عاطفى يخلو من الواقعية، مثلما فعل أنصار دونالد ترامب فى الولايات المتحدة، من أن كثيرين منهم بدأوا يتصفحون على مواقع الإنترنت أى معلومات عن الاتحاد الأوروبى الذى كانوا قد صوتوا بالفعل للخروج منه.
***
أول وعود الرئيس المنتخب دونالد ترامب هى طرد المهاجرين الأجانب الذين لا يحظون بوضع رسمى فى الولايات المتحدة. عددهم يقارب أحد عشر مليونا، عاش أغلبهم سنوات طويلة فى وطنهم الجديد وكونوا أسرا ومارسوا أعمالا مهمة للاقتصاد الأمريكى وبأجور أدنى مما قد يحصل عليه المواطن الأمريكى الذى يتمتع بحقوق اقتصادية واجتماعية بالنسبة للأجور وظروف العمل والتأمين الاجتماعى. أول من سيحتج على خروجهم بعدهم هم أصحاب العمل الأمريكيون الذين استخدموهم فى ظل أوضاع مريحة تماما لهم، بل وسوف تحتج سلطات الحكومة الأمريكية على المستويين الاتحادى والمحلى لأنها لا تملك هذه الموارد المعلوماتية والمالية والمادية والبشرية لمعرفة أماكن إقامة هذه الملايين غير المسجلين فى قواعد بياناتها، ولا لملاحقاتهم فى أنحاء الولايات المتحدة الخمسين على اتساعها الهائل وطردهم لأوطانهم التى لن تريد بكل تأكيد عودتهم لأنهم بوجودهم خارجها خففوا من حجم البطالة فيها وساعدوا اقتصادياتها بما يرسلونه إليها من تحويلات. ولن نتحدث عن البعد الإنسانى فى إجبار هؤلاء الملايين على مغادرة الوطن الذى أقاموا فيه وأحبوه واستفادوا من وجودهم فيه كما استفاد هو منهم اقتصاديا على الأقل. كان أوباما قد اقترح تسهيل إقامتهم فى الولايات المتحدة بتذليل العقبات أمام تقنين أوضاعهم. وبكل تأكيد لن يتمكن ترامب من تنفيذ وعده الآخر ببناء حائط على طول الحدود مع المكسيك للحيلولة دون دخول مهاجرين ليست لديهم وثائق قانونية إلى الولايات المتحدة. كان قد اقترح أن تتحمل حكومة المكسيك نفقات إقامة هذا الحائط، ولكنه لم يجرؤ على مفاتحة الرئيس المكسيكى فى ذلك عندما التقاه كمرشح للرئاسة. ولا يبدو أن الكونجرس الأمريكى حتى بغالبية جمهورية سيساند هذا الاقتراح إذا قدم له لتكلفته المرتفعة ولأنه لن تكون له أولوية فى ظل تزايد عجز الموازنة الأمريكية نتيجة تقلص مواردها بعد الخفض الكبير فى قيمة الضرائب التى تحصلها الحكومة الأمريكية استجابة لوعد ترامب أثناء الحملة الانتخابية، وهو الوعد الذى سيحرص على الوفاء به لأن شركاته ستستفيد منه به كما أنه يتفق مع برامج الحزب الجمهورى. ولكن مثل هذا الوعد سيجعل من المستحيل الوفاء بوعد آخر يعلق عليه أنصاره من العمال ومحدودى الدخل أهمية كبرى، وهو إطلاق برنامج طموح لإعادة تأهيل البنية الأساسية فى الولايات المتحدة من طرق وكبارى ومطارات وموانئ، والتى يرى أنها ستخلق الملايين من الوظائف، من أين سيأتى بالأموال اللازمة لهذه المشروعات إذا كانت ميزانية الولايات المتحدة تواجه عجزا هائلا سوف يتضاعف بكل تأكيد بعد تخفيض الضرائب. وتشير تقارير إعلامية إلى أنه سوف يبقى على عناصر أساسية فى برنامج التأمين الصحى الذى أدخله الرئيس أوباما لأنه يسمح لملايين المواطنين الأمريكيين بالحصول على رعاية طبية متاحة لهم لأول مرة، وكان ترامب قد وعد بإلغائه تماما أثناء الحملة الانتخابية، ولاشك أن العدول عن ذلك سيثير حنق أنصاره من الطبقة المتوسطة ورجال الأعمال والأطباء والجمهوريين الذين كانوا يعترضون تماما على هذا البرنامج لأسباب متباينة منها الارتفاع الكبير فى نفقة المقدمات التى يدفعونها له. ولأنهم يرون فيه برنامجا اشتراكيا، وهو أمر ممقوت فى الولايات المتحدة. ولا يسمح حيز هذا المقال بتناول وعود السياسة الخارجية التى سينكص عنها، ولكن لابد من الإشارة إلى أن أولها هو الاتفاق النووى مع إيران لأنه ليس اتفاقا ثنائيا بين الدولتين، لكنه اتفاق جماعى بين إيران والدول الخمس أعضاء مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، ومن المؤكد أنها سوف تعترض على إلغاء هذا الاتفاق، كما أن البدائل له ليست واقعية، مثل شن حرب على المنشآت النووية الإيرانية أو فرض عقوبات اقتصادية على إيران سوف تبرر لحكومتها نقض الاتفاق والمضى فى تطوير برنامجها النووى لأغراض عسكرية.
***
هذه الحركات الشعبوية هى خطر على مجتمعاتها وهى تهديد خطير للديمقراطية الليبرالية، هى خطر على التماسك الاجتماعى فيها لأنها تقسم المواطنين بين مواطنين أصلاء أصحاب هوية نقية وآخرين دخلاء، إذا كان من الصعب التخلص منهم، فعلى الأقل يجب معاملتهم على أنهم مواطنون من درجة ثانية، يخضعون للرقابة الأمنية إذا كانوا مسلمين فى الولايات المتحدة الأمريكية، أو تلاحقهن نظرة دونية إذا كن من النساء الأمريكيات، أو يجرى الحد من حقوقهم الثقافية مثل استخدام اللغة الإسبانبة من جانب المواطنين الأمريكيين ذوى الأصول اللاتينية. وكما أظهرت المظاهرات العارمة فى الولايات المتحدة، فوصول هذه الحركات إلى السلطة فى مجتمع يفترض أن نظامه ديمقراطى ليبرالى هو تحد صارخ للقيم الليبرالية فى هذه المجتمعات، مثل تمتع كل المواطنين بالمساواة الكاملة فى الحقوق أيا كانت أصولهم العرقية أو الثقافية، وحكم القانون.
ولكن هذه الحركات الشعبوية والتى انتشرت تقريبا فى جميع الدول الرأسمالية المتقدمة، وطبعا لها مثيلاتها فى مجتمعات الجنوب وخصوصا فى الدول العربية، ولكن ليس هذا هو موضوع هذا المقال، هى تهديد خطير للنظم الديمقراطية الليبرالية، لأنها وهى تعادى هذه القيم تصل إلى السلطة باستخدام أدوات الديمقراطية الليبرالية، وتحظى بتأييد قطاعات واسعة من المواطنين كانوا أقل قليلا من الأغلبية المطلقة فى حالة ترامب، ولكنهم نصف المجتمع الأمريكى، وهى نسبة تتجاوز أغلبية الثلث التى حصل عليها هتلر فى حركة شعبوية تتبنى أفكارا مشابهة فى ألمانيا سنة 1933. كيف تسمح الديمقراطية الليبرالية بوصول أعدائها إلى السلطة وباستخدام نفس آلياتها من حريات التعبير والتنظيم والمشاركة السياسية. الاقتصار على ما يسمى بقواعد الديمقراطية الإجرائية لا يكفى لحماية الديمقراطية الليبرالية واستمرارها، ولكن علاج هذا التهديد يقتضى النظر إلى البعد الاقتصادى والاجتماعى لهذه النظم، والذى أفرخ انعدام المساواة فى الدخول والثروات واتساع الفجوة بين من يعملون ومن يملكون، على النحو الذى أكدته الدراسات الجادة لتوماس بيكيتى الذى استضافته جامعة القاهرة فى ختام فصل الربيع الماضى. أداء النظام الرأسمالى فى ظل العولمة هو الذى دفع عشرات الملايين من المواطنين الأمريكيين للتصويت لصالح حركة شعبوية عنصرية معادية لأبسط مبادئ الديمقراطية. فهل ستجد الديمقراطية الليبرالية حلا لهذا التحدى الذى يوشك أن يحفر قبرا لها؟