هناك سحر فى عودة النجمة الاستعراضية شريهان إلى الشاشة فى أول يوم من شهر رمضان هذا العام، ليستقبلها الجمهور بكثير من الترحاب والحب والغزل. طلت النجمة على جمهور افتقد خفة دمها ورقصها لقرابة العقدين. انشغلت شبكات التواصل الاجتماعى بشريهان ربما أكثر من انشغالها بالتعليق على المسلسلات الرمضانية. ظهور شريهان مفاجأة جميلة حتى لو أنها ظهرت فى إعلان تجارى وليس فى عمل فنى يليق بما قدمته فى صباها للفن من خلال المسلسلات وفوازير رمضان الشهيرة، والتى أطلت بها، كمن سبقنها من نجمات الفوازير، على ملايين الجماهير العربية فى تأكيد على مركزية القاهرة كعاصمة للإنتاج الفنى وتحديدا للفوازير وهو نمط من الفن لم تعهده البلاد العربية الأخرى.
***
كان هذا قبل عصر الفضائيات وقبل عصر اليوتيوب والذى يكاد اليوم يقضى على التلفزيون كوسيلة للتواصل بين جيل الشباب. أرجعت شريهان جمهورها إلى فترتها الذهبية كما شاهدها الجمهور على التلفزيونات المحلية أو الوطنية بقنواتها الوحيدة أحيانا، فالجمهور المحتفل بشريهان اليوم هو جمهور نشأ أغلبه مع قناة تلفزيونية واحدة أو قناتين على أكثر تقدير. كانت قنوات بمواعيد بدء وانتهاء البرمجة، توفر للمشاهد برامج ومسلسلات محددة، تتخللها نشرة أو نشرتان للأخبار، وأفلام رسوم متحركة فى فترات مناسبة للأطفال. كانت البرمجة تتبع أوقاتا ومواعيد صارمة تنتقل بين ما هو تعليمى وما هو إخبارى وما هو ترفيهى.
***
فى فترة ما قبل الإعلام الرقمى، كان ثمة نظام فى تلقى المحتوى الإعلامى يقرره مدير برامج القنوات التلفزيونية. وبعيدا عن نقاش حول ما أتاحه الإعلام الرقمى من انفتاح على عوالم بأكملها، فيها مصداقية وفيها تلاعب وتحريض، فإن الإنتاج الفنى المعروض من خلال قنوات التلفزيون ساعدت على إشراك شعوب وأجيال كاملة بمسلسلات أغلبها مصرى صارت علامات ومرجعيات على مد المنطقة العربية. وبالتالى، فظهور شريهان، وهى وجه من وجوه التلفزيون فى حلته التقليدية، هو بمثابة عودة إلى زمن يبدو اليوم بعيدا كل البعد عن عالمنا الرقمى، وهكذا يبدو جيل الثمانينيات والتسعينيات وكأنه من عصر الديناصورات!
***
طبعا لشهر رمضان قدرة عجيبة على استحضار ذاكرة أيام أجمل، صور ذهنية عن عائلات كبيرة تلتف حول موائد عامرة، شعور بالدفء والألفة والروحانية بأشكال متفاوتة. ذاكرة شهر رمضان مثقلة بوجوه رحلت وسنوات مضت ومسلسلات تلفزيونية يرتبط كل واحد منها بقصة شخصية، يعنى أن يقال مثلا «أيام مسلسل هى وهو كنا نعيش فى الكويت وجاء شهر رمضان فى الصيف». شهر رمضان وتصور اجتماع العائلة وأغانى فوازير رمضان فى الخلفية، ثم أذان على التلفزيون أيضا، وربما صوت الشيخ الشعراوى أو غيره، بغض النظر عن مدى التزام من فى البيت بالتعاليم الدينية أو بالفرائض، كلها تعبر عن حالة كانت تعاش مرة فى السنة ولا أظن أنها ممكنة مع جيل اليوتيوب.
***
أصبح اليوم هناك فصل بين جيل التلفزيونات حتى الفضائيات منها وجيل اليوتيوب. جيل اليوتيوب يختار ما يريد حين يريد، بينما جلس جيل التلفزيون ينتظر الحلقة بعد الحلقة من مسلسل ربما كان يتيما أى أنه لم يكن يعرض غيره على القناة الأرضية. لا تحب فؤاد المهندس؟ أنت حر إنما هذا هو المتاح هذه السنة! تفضل الدراما على الكوميديا؟ معلش.. هكذا كان المشاهد نفسه مبرمجا مع برامج التلفزيون!
***
اخترق الإنتاج السورى الهيمنة المصرية على المسلسلات فى تسعينيات القرن الماضى لكنه بقى ولفترة طويلة محصورا فى المجتمع السورى، أى أن السوريين باتوا حينها يشاهدون مسلسلات مصرية وسورية حتى انتشرت الفضائيات وانتشر معها الإنتاج الدرامى السورى خصوصا ذلك الذى أظهر ما بات يسمى بالبيئة الدمشقية (والذى انتقل بسرعة إلى شىء يشبه الكاريكاتور برأيى). كما انتشرت المسلسلات التاريخية السورية، والتى أكسبت الإنتاج السورى سمعة جيدة بسرعة أيضا.
***
حاولت فى السنوات الأخيرة أن أفرض طقوس شهر رمضان على أولادى، وأن أفرض عليهم أن يشاهدوا بعض المسلسلات، وقد فشلت عموما فى إقناعهم بضرورة أن يتابعوها. أنا نفسى أظن أننى فقدت جزءا من متعة المتابعة مع توفر حلقات المسلسل عبر منصات رقمية. يعنى أننى لا أستمتع بإمكانية اختيار وقت العرض الذى يناسبنى. أريد أن يأخذ غيرى بعض القرارات، كأن أضطر أن أتوقف عن عمل ما أعمله لأننى أتابع مسلسلا يبدأ الآن.
***
أنا ديناصور رمضانى، أريد أن أنظم وقتى فى شهر الصيام على إيقاع الفوازير وأحداث المسلسلات. أريد جدتى وعموما وعمات وخوال وكل أولادهم وبناتهم. أريدنى طفلة بينهم وأريدنى أيضا أما لهم أطبخ وجبة الإفطار وأمد سفرة على طرفها طبق صغير فيه تمر، حتى لو أننى لا آكله. أريد مسلسلا واحدا يعرض فى وقت محدد وآخر أشاهده بعد الإفطار. أريد أذان الجامع الأموى فى دمشق يدخل على حياتى حيث أنا، فيتوقف العالم من حولى هناك، فى ساحة الجامع الكبير عند المغرب. وقتها يطير الحمام فوق المأذنة ويرتفع صوت جدتى وهى تنادى على الجميع. أظن أن هذه أمى وإخوتها ولست أنا، هناك فى مطبخ يخرج منه بخار برائحة الثوم والكزبرة وقت الإفطار.
كل عام وديناصورات رمضان بخير، طوال ما نحن ديناصورات مثل شريهان!
كاتبة سورية