لا أحد يعلم الآن عدد التجمعات الشبابية التى خرجت من ميدان التحرير بعد نجاح ثورة 25 يناير.. هناك من يقول إن ميدان التحرير افرز 18 ائتلافا، وهناك آراء أخرى تقول إنها 32 ائتلافا، وهناك مبالغات وصلت بعدد الائتلافات إلى 220، وهذا بالتأكيد رقم مبالغ فيه.. المهم أن الشعب الذى توحد يوم 25 يناير وظل صامدا 18 يوما فى الميادين حتى سقط النظام، هذا الشعب نفسه هو الذى تفكك الآن وأصبح شيعا وأحزابا..
كانت الأزمة الحقيقية التى صنعها الإعلام فى عهد النظام السابق هو ما يسمى الفتنة الطائفية وهى صناعة أمنية إعلامية محلية تداخلت فيها عناصر الصحافة والفضائيات وأمن الدولة وحشود الأمن المركزى ووصل بها الحال إلى تدبير الجرائم وتجنيد البلطجية وإحراق الكنائس وقتل الأبرياء، كل ذلك من أجل إيجاد حالة من الرعب والإزعاج والخوف بين المواطنين من أجل هدف واحد هو بقاء النظام والسلطة الغاشمة وسيطرة جهاز الأمن على كل شىء فى أرض الكنانة..
كان النظام السابق بارعا فى تدبير كل هذه الأشياء وارتكاب كل هذه الجرائم التى شغلت المصريين زمنا طويلا وأصبح الحديث عن الفتنة الطائفية ولقاءات عنصرى الأمة واجتماعات فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر وبابا الكنيسة يمثل طقوسا يومية وسنوية وفى جميع المناسبات من أجل حماية الوطن من هذه الكوارث التى تهدد أمنه واستقراره..
لم يخل خطاب لرئيس الدولة السابق طوال ثلاثين عاما من الحديث عن كارثة الفتنة الطائفية والصراع الدينى الذى يهدد أمن مصر وسلامتها.. أصبح حديث الفتنة الطائفية هو القضية الأساسية فى مصر على كل مستويات العمل السياسى والنشاط الدينى والأمنى والاقتصادى محليا ودوليا وابتلع المصريون الطعم وكبرت الكارثة حتى إنها تحولت إلى حرائق للكنائس وقتلى فى الشوارع وأصبحت مصدرا للصحافة العالمية التى تتحدث عن مستقبل مصر الغامض فى ظل هذه الفتنة.. وظهرت مراكز أبحاث محلية ودولية تتحدث عن الأقلية القبطية المظلومة فى مصر والمد الإسلامى الذى تجاوز كل الحدود والجرائم التى يشهدها الشارع المصرى كل يوم ولاشك أننا صدقنا ذلك كله بل وشاركنا فى تجسيد هذا الشبح الذى يطارد المصريين فى كل مكان حتى أصبح جزءا من واقعنا البغيض.
كانت حرائق الكنائس صناعة أمنية وكان آخرها حريق كنيسة القديسين فى الاسكندرية ليلة رأس السنة مع بداية هذا العام وقبل انطلاق الثورة بأيام قليلة ويومها تحول كل بيت فى مصر إلى جنازة للمسلمين والأقباط معا ولم نكن يومها نعلم أن أجهزة الأمن قد استغرقتها المسرحية الهزلية التى تقدمها كلما طلب النظام ذلك حتى يعيش المصريون فى حالة رعب دائم..
وإذا كان شبح الفتنة الطائفية بين عنصرى الأمة قد اكتشفنا حقيقته رغم علمنا أن هناك أسبابا تتطلب منا الحذر إلا أن قيام ثورة يناير كشف أمامنا حقائق كثيرة حول هذه المؤامرة الأمنية السخيفة.. بعد قيام ثورة 25 يناير توحد الشعب المصرى بكل طوائفه وفئاته وكان مشهد الصلاة الجماعى بين المسلمين والأقباط شهادة ميلاد جديدة لشعب عرف التوحيد قبل الأديان ولم يعرف يوما خصومات فى الدين وعاش المسلمون والأقباط على ضفاف نيلنا الخالد أخوة متحابين.. كنا نتصور أن ثورة يناير ورحيل النظام السابق بكل رموزه الأمنية والسياسية قد أغلقت ملف الفتنة الطائفية وأن الشعب الذى انصهر وتوحد واختار طريقه فى ميدان التحرير سوف يبدأ رحلة جديدة نحو مستقبل جديد.. خرجنا من ميدان التحرير يوم رحيل رأس النظام شعبا واحدا متماسكا متحدا على هدف واحد وبعد شهور قليلة وجدنا نفس الميدان الذى توحدنا فيه وقد أصبح ميدانا للانقسامات والاعتصامات والطوائف والغريب أننا لم نعد مسلمين وأقباطا فقط ولكننا أصبحنا نواجه فتنة كبرى بين المسلمين أنفسهم..
لم تعد القضية هى الفتنة الطائفية بين الأقباط والمسلمين ولكنها أصبحت فتنة أكبر بين تيارات إسلامية تؤمن بنفس العقيدة وتقيم نفس الصلوات وترفع راية محمد عليه الصلاة والسلام وترتل القرآن الكريم وفى شهر الصوم تنطلق مواكب الرفض والإدانة والتشكيك والتخوين والعمالة وكلها تحت راية الإسلام..
نحن الآن أمام مشهد عجيب يحتاج إلى دراسات نفسية وسياسية ودينية وقبل هذا كله دراسات سلوكية وأخلاقية.. بماذا نفسر هذا العدد الضخم من التجمعات الإسلامية التى ظهرت بعد ثورة يناير وجاءت ومعها هذا الكم الرهيب من الخلافات والصراعات والمعارك.. هناك تجمعات دينية نسمع عنها لأول مرة فلا هى كانت تعكس تواجدا دينيا حقيقيا من حيث الدور والأثر فى الشارع المصرى ولا هى كانت صاحبة دور سياسى سواء كان معارضا أو مؤيدا للنظام السابق.. ولا أحد يعرف كيف نشأت هذه الجماعات وكيف كبرت وتوسعت.. كل ما كنا نعرفه أن هناك جماعة الإخوان المسلمين وهى جماعة دينية سياسية نعرف كل تاريخها ومعاركها مع الأنظمة السياسية المختلفة سواء قبل ثورة يوليو 1952 أو بعدها..
كلنا يعرف قصة الإمام الشهيد حسن البنا مع النظام الملكى واغتيال قائد الجماعة.. وكلنا يعلم شهداء الجماعة بعد ذلك الشهيد سيد قطب وعبدالقادر عودة والصراع التاريخى بين الجماعة وثلاث مراحل من تاريخ مصر المعاصر مع عبدالناصر والسادات ومبارك.. وكلنا يعلم تاريخ الإخوان المسلمين وقد نتفق أو نختلف حول نشاطها ودورها ومعاركها ولكن هناك كيانا موجودا ناضل وتحمل وشارك وأصاب وأخطأ.. وكلنا يعترف أن الإخوان حققوا تواجدا سياسيا واضحا وصريحا فى السنوات الماضية وفى ظل نظام قمعى جائر.. هذه كلها حقائق ثابتة..
ونحن نعلم أيضا أن الصوفية فى مصر تاريخ طويل منذ مئات السنين وهى أكبر وأقدم تجمع دينى فى العالم الإسلامى وليس فى مصر وحدها.. والصوفية لها مكانة خاصة حتى الذين اختلفوا معها فى النهج والغاية.. إلا أن للصوفية مكانة خاصة فى وجدان المصريين بل والمسلمين فى كل بلاد الدنيا.. ولا نستطيع أن نفصل هذه المكانة عن رموز الصوفية الذين عاشوا فى مصر ابتداء بالإمام البوصيرى وابن الفارض والسيد البدوى وأبوالحسن الشاذلى وإبراهيم الدسوقى وكلهم من أولياء الله الصالحين رضوان الله عليهم.. ومع هؤلاء كان وجود آل البيت رضوان الله عليهم سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة ومن دفن فى مصر من آل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ولم يمنع وجود الصوفية فى مصر من وجود رموز إسلامية عظيمة مثل ضريح الإمام الشافعى رضى الله تعالى عنه.. كانت فى مصر مقبرة شهيرة تضم أولياء الله الصالحين وهى مقابر الصوفية وعندما انشأ النظام السابق طريق المحور أزال الجزء الأكبر من هذه المقابر وكان من بينها مقبرة ابن خلدون عالم الاجتماع الكبير.. وتم هدم مقابر الصوفية لإنشاء طريق المحور..
ومع الصوفية وتاريخهم الطويل فى مصر كانت هناك جماعات إسلامية فى فترة السبعينيات أخرى مثل أنصار السنة المحمدية وكانوا الأقرب للسلف الصالح.. وكانت هذه التيارات الدينية بعيدة تماما عن السياسة فلم يعرف عن الصوفية أنهم اقتربوا من العمل السياسى وكذلك أنصار السنة..
وعندما ظهرت التيارات الدينية المتطرفة مثل الجهاد والجماعة الإسلامية كان واضحا من البداية أن هذه التيارات تحمل أهدافا ومشروعا سياسيا وإن تخفت وراء الدين.. ومن هنا كان اختيارها للعنف طريقا وهو الذى انتهى بها إلى جريمة اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات..
الغريب أننا بعد ثورة 25 يناير وجدنا مشهدا جديدا على الساحة السياسية فى مصر، حيث ظهرت جماعات سياسية متعددة الألوان والرؤى وإن حملت الفكر الإسلامى، والأغرب من ذلك أن هناك جماعات مثل الصوفية لم تكن لها علاقة فى الماضى بالعمل السياسى وقررت أن تدخل الساحة السياسية.. وخرجت جموع التنظيمات السياسية التى مارست العنف فى فترات سابقة لتعلن قيام أحزاب سياسية شرعية تمثلها.. وحتى هذه اللحظة ليس هناك اعتراض على ظهور هذه الجماعات ورغبتها فى دخول الساحة السياسية مثل كل القوى ولكن الغريب حقا أن هذه الجماعات بدأت نشاطها بفتح أبواب واسعة لصراعات دينية بينها وأن غلفتها بواجهة سياسية.. وهنا أيضا بدأت عملية استقطاب بين هذه الجماعات.. والأخطر منذ ذلك كله أن بوادر هذه الخلافات تقترب كثيرا من مناطق الصراع ولن يكون غريبا أن يقع فى المستقبل القريب صدام بينها ولنا أن نتخيل مثلا مواجهة بين السلفيين والصوفيين وهذا أمر وارد.. وعلى سبيل المثال لو أن تجمعات السلفيين قامت بهدم ضريح لأحد أولياء الله الصالحين فسوف يرد رموز الصوفية على ذلك بهجوم أعنف وأشد.. ولنا أن نتصور الآن موقف الإخوان المسلمين وهم التيار السياسى الأقوى فى الساحة الدينية ماذا يفعل هذا التيار لو أن جماعات الصراع الدينى تحت راية الإسلام اقتربت من مناطق الصدام.. لن يكون غريبا أن يحدث هذا الصدام بين الصوفيين والسلفيين وجماعات أخرى مثل الجهاد أو الجماعة الإسلامية.. ولاشك أن دخول الدين بهذه الصورة إلى العمل السياسى سوف يفسد الاثنين معا..
هناك حالة خوف شديدة تجتاح عقلاء هذا الوطن أمام هذا التصعيد الغريب فى لغة الحوار والخطاب الدينى والسياسى والشىء المؤسف أن هذا الصراع يحدث بين أبناء عقيدة واحدة ووطن واحد وثورة شارك فيها الجميع فهل من الحكمة أن يصبح الدين مطية لتيارات سياسية لا أحد يعلم توجهاتها ثم تكون المواجهة بينها ولا أحد يعلم إلى أين تحملنا كل هذه الصراعات..
بعد أن كنا نعانى من فتنة طائفية واحدة بين المسلمين والأقباط فإننا نستقبل الآن فى الشارع المصرى شبحا آخر يسمى الفتنة الكبرى لأنه بين أبناء عقيدة واحدة.. هنا لابد أن يتدخل الأزهر الشريف قلعة الإسلام الحقيقية لإسكات كل من يتاجر بالدين أو يرفع رايته فى سوق السياسة.. لن يكون من الحكمة أن نترك هذه الجماعات تفسد علينا فرحتنا بثورتنا العظيمة أو تسمم لنا الساحة السياسية حين تخلط الدين بالسياسة وتتصارع مع بعضها ونحن لا ندرى هل هو صراع دين أم صراع سياسة أم أنه يخفى الكثير من المصالح والأهداف.. إنها فى تقديرى الفتنة الكبرى التى يمكن أن تهدد مستقبل هذا الوطن وتطيح بكل أحلام الأمن والاستقرار فيه..