كانت أولى الكلمات التى وصف بها رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون التمرد الذى شهدته شوارع بعض أحياء لندن أوضح ما يكون: عنف بلا عقل، المجرمون، إنهم يدمرون حياة الآخرين ويدمرون حياتهم. لكن كاميرون، الذى اضطر هو وعدد غير قليل من الساسة الإنجليز لقطع إجازاتهم فى أوروبا بفعل الأحداث، فوجئ بانتشار العدوى من حى لآخر فى لندن ثم إلى برمنجهام وليفربول ومانشستر فى الأيام التالية. فكان تعليقه هو أنها ظاهرة «غريبة».
ويصبح امتداد التمرد، بما شمله من حرق للمنشآت ونهب للمحال، بهذا الشكل «غريبا» فقط أمام التفسير الأخلاقى المحض الذى تبناه كاميرون، والذى ترتب عليه التهديد بأقصى العقوبات فى مواجهة «عصابات النهب والسلب». فالعصابات يمكنها أن تستغل فرصة التمرد فى الشوارع لكنها لا تستطيع أن تخلقه. العصابات تعمل فى السر وليس كجيوش من مقاتلى الشوارع. وإذا تبنينا تفسير كاميرون والتيار السائد فى الإعلام البريطانى سيكون علينا أن نجد تفسيرا لتزامن الأحداث فى لندن مع المواجهات العنيفة فى شوارع أثينا ومدن اليونان قبلها بأسابيع، ومع «الشغب» الذى شهدته شوارع سانتياجو فى شيلى على بعد آلاف الكيلومترات بعد اصطدام الطلبة، المحتجين على تراجع التعليم وارتفاع تكلفته، بالشرطة. وهى مصادمات صحبها أعمال سلب ونهب للمحال على الطريقة اللندنية. إذا سلمنا بتفسير كاميرون، سيكون علينا أن نفترض أنه يكمن وراء الأحداث تنظيم عالمى للبلطجية.
***
أما التفسير الحقيقى فيمكن العثور عليه فى تاريخ لندن نفسها. فقد شهدت المدينة فى الثمانينيات من القرن التاسع عشر وفى الثلاثينيات ثم فى الثمانينيات مظاهرات للعاطلين ومصادمات شوارع شبيهة. وتاريخ الرأسمالية حافل بانقباضات غضب شعبى مماثلة تترافق مع أزماتها، التى يتم تحميل وطأتها لجمهور الناس من الفقراء.
لقد حوَّل الكساد الذى يشهده العالم منذ 2008، لندن وأثينا وسانتياجو وغيرها، إلى مدن على حافة الانفجار، بعد أن تعاملت معه الحكومات، المنتخبة ديمقراطيا، بمزيج من دعم الشركات والبنوك بتريليونات الدولارات والتقشف الحاد فى الانفاق على الخدمات العامة. ألقى الكساد بالعمال إلى الشوارع من ناحية، وقلص أجور ومستويات معيشة من حافظوا على وظائفهم، ثم قطع الطريق على الشباب لأنه رفع تكلفة التعليم وحرمهم من الخدمات العامة، فى وقت تغذيهم ثقافة الشركات الحاكمة فيه بفكرة أن الاستهلاك هو عنوان الحياة.
لم تعف حقيقة أن هذه الحكومات منتخبة دون تزوير، وأن هذه المجتمعات تتمتع بتداول السلطة، من أن الأنظمة السياسية لهذه الدول بانحيازها هذا صارت معزولة يوما بعد يوم. وانعكس ذلك فى تراجع نسب التصويت فى الانتخابات العامة وفى معدلات الانضمام للأحزاب. وهكذا صارت الشرطة عنصرا أساسيا فى السياسة الحكومية لضبط الأوضاع. لذا لا تخلو أى من الحالات التى اندلع فيها شغب الشوارع من حوادث عنف غير مبرر من الشرطة تجاه هؤلاء المهمشين اجتماعيا. فى بريطانيا وحدها تم تقديم 5000 شكوى ضد عنف الشرطة خلال العامين الماضيين (كان قتل الشرطة لأب لأربعة أطفال فى توتنهام برصاصة فى الرأس سببا أساسيا فى الأحداث الأخيرة).
إن تفسير أحداث لندن بالبلطجة وعمل العصابات ليس قاصرا فقط بل إنه مسيس أيضا. لقد خفضت حكومة المحافظين والليبراليين الديمقراطيين الانجليزية أكثر من 80 مليار استرلينى من ميزانية الدولة لهذا العام (كان من عواقبها اغلاق المركز الرياضى بتوتنهام، الملجأ الأخير لعاطلى المنطقة). أدى هذا فى حالة واحدة إلى حرمان 70 ألف امرأة وطفل كانت الدولة تساندهن فى مواجهة العنف المنزلى من هذا الدعم، بينما استمر أغنياء بريطانيا فى مراكمة الثروات لتصبح عدم المساواة سمة اجتماعية أساسية. فقط قارن معى عنف الدولة هذا تجاه مواطنيها العزل، بسرقة عدد من المحال فى فورة غضب مضاد. قارن معى مئات التريليونات من الدولارات وملايين الوظائف التى فقدت بسبب «جنون الأسواق» بالمائة مليون استرلينى خسائر «العنف بلا عقل» من ضحايا انحياز ديمقراطيات الرأسمالية للشركات الكبرى. إن عنف الأسواق أكثر تدميرا للحياة والاقتصاد والمجتمع بما لايقاس. كما لا يجوز مساواة عنف المعتدى بعنف المدافع عن نفسه، حتى وإن كان الأخير يدافع عن نفسه بطريقة خاطئة.
***
هذه رسالة واضحة وضوح الشمس لساسة مصر الذين يرغبون فى حصر ثورتنا فى تعديلات فى شكل نظامنا السياسى دون جوهره فى حقوقنا الاقتصادية والاجتماعية. (بالمناسبة ثورتنا لم تخل من عنف المحتجين فى مواجهة المتسببين فيه حقا ودفاعا عن النفس). السياسة الديمقراطية تعنى الكرامة وحرية الاختيار، وتعنى أيضا المساواة وتكافؤ الفرص والحق فى الوظيفة والسكن والحياة بلا فقر.
شعبنا عطش من أجل حرية لا تتجزأ ولن يقبل أن يرحل الديكتاتور لتحكمنا الشركات الكبرى عبر هذا الحزب أو ذاك، سواء كان قديما أم جديدا، علمانيا أم إسلاميا، بنفس سياسات التقشف المنحازة للسوق وأغنيائه. خذوا العبرة من لندن وسانتياجو وأثينا لأن الشعوب جبارة وسلطتها غالبة.