المتابع للتطورات السياسية فى مصر يدرك بدون عناء أن الديمقراطية صارت قضية مؤجلة فيها، بل إنه قد يشك فى أنها مازالت قضية أصلا. يوجد تصوّر بأن الديمقراطية بعثرة للجهود، ومضيعة للوقت، وباب يفتح، يدخل منه أعداء الوطن لكى يفتكوا به ويبددوا مصالح الشعب. هذه النظرة إلى الديمقراطية ليست جديدة على مصر كما أنها مرت على غيرها من البلدان فى مناطق العالم المختلفة، فى آسيا، وفى إفريقيا، وفى أمريكا اللاتينية، بل وفى أوروبا نفسها فى وقت ليس بعيدا. باستثناءات تؤكد صحة القاعدة، مثلما هى حال كوريا الشمالية وبييلوروسيا، وبدرجة أقل حال الصين وروسيا الاتحادية، أدركت كل هذه المناطق والبلدان أن الديمقراطية هى سبيلها إلى التعايش، وإلى اتخاذ القرارات السليمة بشأن ترتيب الأولويات وصياغة السياسات الواجبة. الديمقراطية ليست هدفا فى حد ذاتها وإنما هى المنهج الذى يأخذ بالبلاد إلى تحقيق أهدافها. ليست الديمقراطية عبئا على بلد تريد أن تقفز على طريق التنمية، وإنما هى التى توفِر على هذا البلد الأخطاء، وتكفل له أكثر الاختيارات سلامة. الوقت الذى يستغرقه اتخاذ القرار ليس تبديدا. عملية اتخاذ القرار هى استثمار للقدرات المتوفرة فى أى بلد من البلدان.
•••
العلامات على تلاشى الديمقراطية من أجندة العمل السياسى عديدة. على الرغم من استنكار العدد الأكبر من التيارات السياسية الليبرالية، والناصرية، واليسارية، فضلا عن تلك الإسلامية التى مازالت تنتهج العمل السياسى، لقانون التظاهر فإنه لم تبد من الحكومة أى بادرة على إعادة النظر فى هذا القانون. عشرات المضربين عن الطعام فى السجون وخارجها لم يفلحوا بدورهم حتى الساعة على حمل الحكومة على الانفتاح عليهم، هم الذين يمارسون منتهى أشكال التعبير السياسى سلمية. وفى خضم الاحتجاج على قانون التظاهر، خرجت الحكومة بمشروع قانون للجمعيات الأهلية أكثر تقييدا لها من القانون السارى نفسه، قانون يجعل نشأتها وبقاءها رهنا برضاء الحكومة عنها. ولم يكف ذلك، بل ونشرت الحكومة إعلانا يدعو الكيانات النشطة فى المجتمع والمسجلة تحت قانون غير قانون الجمعيات الأهلية السارى، تهربا من تعسفه وإغلاقه للمجال المجتمعى، إعلان يدعو هذه الكيانات إلى توفيق أوضاعها وإلا تعرضت للحل. وبينما يواصل مخلصون من المهتمين بالشأن العام والعاملين على تحقيقه التنبيه إلى ضرورة تعديل قانون التظاهر وعدم إصدار مشروع قانون الجمعيات بشكله المنشور، إذا بالصحافة تخرج بنبأين، الأول عن مشروع بقانون لحماية الأمن القومى لا يشمل المعلومات العسكرية وحدها بل والاقتصادية أيضا، والثانى عن الإسراع بتعديل قانون الطوارئ باعتبار «الظروف الاستثنائية التى تمرُ بها البلاد والتى قد تدفع إلى إعلان حالة الطوارئ فى أى وقت». بعبارة أخرى، إعلان حالة الطوارئ وارد والتفكير فيه جار. كل ما سبق فى غياب برلمان يراقب ويشرِع، بل وفى غياب مجرد الحديث عن دعوة الناخبين إلى انتخابه.
•••
كلما احتج المحتجُّون على مشروع قانون الجمعيات الأهلية أو غيره، تسارع الحكومة إلى التصريح بأنه مجرَد مشروع سيطرح «لحوار مجتمعى». ليس مفهوما ما هو المقصود بالحوار المجتمعى. من الطبيعى والضرورى أن تطرح الموضوعات المهمة، بل وغير المهمة، على أصحاب الشأن، أى على الشعب، صاحب السيادة، لكى يناقشها عبر مؤسساته المجتمعية، ومنها الجمعيات الأهلية التى يراد تقييدها. ولكن أين يتخذ القرار؟ أى آليات لاتخاذ القرار توجد فى «الحوارات المجتمعية»؟ المؤسسات المجتمعية، من أحزاب سياسية وجمعيات أهلية ومراكز للبحث ومحللين أفراد، يتفحصون المطروح من قبل الحكومة وينظرون إليه من جميع الزوايا، ولكن اتخاذ القرار لا يكون إلا فى البرلمان، والمفهوم من ذلك هو البرلمان المنتخب بالإرادة الحرَة للمواطنين، وليس ذلك الذى أصيبت به البلاد فى العقود الماضية.
وترتيب الأولويات لا يصح له مكان ولا آلية غير البرلمان الممثل لإرادات الشعب المختلفة والمثرية. قبل يومين من الإعلان عن قانون حماية المعلومات وعن تعديل قانون الطوارئ، كشفت الإحصاءات الرسمية عن أن فى مصر 17 مليون أمى، بنسبة 30 فى المائة من المواطنين فى سن الخامسة عشرة فما فوق. أليس محو الأمية، بعد زهاء 90 عاما من صدور قانون التعليم الإلزامى أولوية قصوى؟ وألا يعادل محو الأميَة كأولوية الإصلاح الشامل للتعليم من جذعه وأفرعه وجذوره، التعليم عندنا الذى أصبح فى مذيِلة أنظمة التعليم فى العالم. إصلاح التعليم وتوفيره بالنوعية والكمية الضروريتين يحتاج إلى عشرات بل ومئات المليارات، ولكنه سيكون أفضل استثمار للموارد ينعكس بأفضل مما يحققه أى استثمار آخر فى معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادى. هذه هى الخلاصة التى توصلت إليها كل نظريات التنمية.
والكهرباء. انقطاع التيار الكهربائى ليس منغصا يتحمله الناس فيعيشون فى الظلام ساعات من اليوم أو الليل حتى تنفرج الأمور. الحياة المتحضرة فى القرن العشرين الفائت، ناهيك عن الحادى والعشرين الحالى، والاقتصاد الحديث، بل والأقل حداثة، لا يعملان إلا بالكهرباء. انقطاع الكهرباء يعرقل الحياة ويشل الاقتصاد، وينعكس انخفاضا فى معدلات النمو الاقتصادى، انخفاض لا تنفع معه أى مشروعات كبرى أو صغرى.
وفراغ السلطة إلى الغرب منا فى ليبيا، والتقيُح الغائر فى الجرح الفلسطينى، وتقويض العنف الجهادى الذى تمارسه «الدولة الإسلامية» للدول فى المشرق العربى، عنف يجد له امتدادا فكريا عندنا يزداد صراحة فى كل يوم، من يناقشها ويصدِق على سبل التصدى لها؟
•••
بالفعل، ما سبق يشكل معا تحديات هائلة لأى سلطة، وهى تحديات يزداد وقعها كلما كانت تركيبة السلطة بسيطة. تعقُد مؤسسات كل من النظام السياسى والمجتمع الأهلى أو المدنى، وتعدد قنوات الاتصال بينها، وحرية استخدام هذه القنوات، تزيد من قدرة النظام السياسى على استيعاب الصدمات والتصدى للتحديات.
الديمقراطية ليست ترفا، ولا هى عرقلة، بل هى السبيل إلى تأمين التعايش وإلى تحقيق المواطنين لذواتهم، وإلى إنجاز التنمية والتقدم.