إشكالية البحث العلمى المصرى: ما بين أينشتاين وعبدالمنعم رياض ومبارك - محمد رءوف حامد - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:52 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إشكالية البحث العلمى المصرى: ما بين أينشتاين وعبدالمنعم رياض ومبارك

نشر فى : الإثنين 14 أكتوبر 2019 - 9:50 م | آخر تحديث : الإثنين 14 أكتوبر 2019 - 9:50 م

«لا يمكن التوصل إلى حل لأى مشكلة بالاعتماد على نفس مستوى الوعى الذى أوجد هذه المشكلة». صدرت هذه المقولة البليغة، والتى تمثل مفهوما استراتيجيا بالغ الأهمية، عن أحد أعظم علماء القرن العشرين ألبرت أينشتاين (1879 ــ 1955).
الأهمية العملية لهذا المفهوم تستدعى الأخذ به أو القياس عليه فيما يتعلق بواحدة من أهم الإشكاليات المزمنة فى مصر، إشكالية البحث العلمى. هذا الاعتبار استحضر إلى ذهنى ثلاث حكايات تتعلق بهذه الإشكالية.

• بطل الحكاية الأولى هو الشهيد عبدالمنعم رياض (1919 ــ 1969)، والذى قال لمحدثه أثناء حرب الاستنزاف (فى أواخر الستينيات)، وبينما كانا يمدان بصريهما إلى الجانب الآخر من قناة السويس (أى الجانب الذى كان محتلا بواسطة القوات الإسرائيلية): «المعركة القادمة هى معركة المستقبل.. إنها ليست معركة فى المكان المحدود، وإنما معركة فى الزمان غير المحدود».
يا لبصيرة الاستشراف المستقبلى، ويا لعبقرية الشهيد.
لقد كانت حرب أكتوبر العظيمة بعد ذلك معركة مكان محدود، وأيضا معركة زمن محدود. أما المعركة الأعظم والأخطر معركة الزمان غير المحدود والتى نبهنا لها الشهيد العبقرى فتعتمد على موقفنا من الزمن، فالزمن المجرد هو هو لكنه قد يكون بمثابة نصف زمن عند قوم، وزمنين عند قوم آخرين، ومائة زمن عند قوم غيرهما وهلم جرا حسب إيقاعات الاجتهاد فى إحداث التقدم.
وهكذا التعامل المجتمعى الفاعل مع الزمان بمعنى تعظيم الاستخدام الأمثل لوحدة الزمن لا يقوم إلا من خلال تعظيم أدوار وسياقات وإبداعات البحث العلمى والتغيير التكنولوجى ومن ثم إنجاز السبق والتقدم فى «معركة الزمان غير المحدود».
وأما الكيانات أو البلدان التى تتخلى عن الاستخدام الأمثل لوحدة الزمن فتكون، مهما كانت أعذارها، عرضة للانكماش.. فالتدهور.. فالتلاشى حيث تخرج عن مسارات التقدم وتتزايد عجلة رجوعها إلى الوراء مقارنة بالآخرين.
***

• أما الحكاية الثانية فتختص بالجماعة العلمية الوطنية.
ما لن ينساه التاريخ المصرى الحديث أن خلية نحل مُكونة من نحو ستمائة عالم وخبير (فى عديد من تنوعات المعرفة) قد تجمعت (فى النصف الأول من الثمانينيات) و«اشتغلت» معا لسنوات (1981 ــ 1984) بهدف وضع مشروع لسياسة قومية تكنولوجية لمصر.
بدأ ذلك العمل برعاية الدكتور ابراهيم بدران، وتواصل من الألف إلى الياء فى استمرارية مذهلة بقيادة الدكتور عصام جلال (رحمة الله عليهما) وانتهى بإنشاء أمانة فنية للمشروع من نحو عشرين عضوا، أذكر من بينهم الدكاترة على حبيش (رئيس أكاديمية البحث العلمى لاحقا) ومصطفى الرفاعى (وزير الصناعة فيما بعد) وحسام عيسى (نائب رئيس الوزراء ووزير البحث العلمى فى بداية عهد الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور) ومصطفى أحمد مصطفى (المستشار بمعهد التخطيط) والمرحوم المهندس محمد أمين (والذى كان بمثابة شعلة وطنية كبيرة فى التعلم والممارسة لمسألة التخطيط التكنولوجى). وكان من حظ كاتب هذه السطور أن يكون ضمن كتيبة هؤلاء العمالقة بقيادة د.عصام الدين جلال وسكرتارية خبيرين من الأكاديمية وهما دكتور عز الدين الطوخى ومهندس شاكر سعيدة.
المفاجأة أن رد الفعل أو التعقيب التلقائى لرئيس الوزراء وقتها المرحوم الفريق كمال حسن على عند عرض مشروع السياسة التكنولوجية القومية عليه، قد اختُصر فى الإشارة إلى أن «هذه السياسة تحتاج إلى زمن بينما نحن مشغولون اليوم برغيف العيش الذى نحتاجه غدا».
بعدها، وعلى نفس المنوال أو فى ظل سياقات مشابهة لم يكن من الغريب أن محاولاتين تاليتين لتحديث هذه السياسة (عامى 1993و 2000) قد لاقتا ــ إلى حد كبيرــ نفس المصير.
بمعنى آخر، لم نتمكن ككيان مجتمعى من امتطاء الجواد المطلوب لتمكيننا من العبور إلى الزمان غير المحدود والذى حتما يحتاج إلى البحث العلمى والتغيير التكنولوجى من حيث المنظومية الراقية والفاعليات المتواصلة والعائدات المتصاعدة.
***

• وعن الحكاية الثالثة فتختص بحوار قصير جدا جرى بينى والرئيس مبارك (يناير 1999) فى اللقاء الافتتاحى لمعرض القاهرة الدولى للكتاب.
طبقا للعرف السائد وقتها، كان من حظى عندما حصل كتابى «إدارة المعرفة: رؤية مستقبلية» على لقب أحسن كتاب فى الدراسات المستقبلية عن عام 1998 أن أصعد إلى المنصة لمصافحة الرئيس وأن يكون بيننا حديث قصير ــ على انفراد ــ كما يحدث مع باقى الفائزين.
فى حديثى مع الرئيس ذكرت أن كلا من «البحث العلمى» و«التنمية» فى مصر فى واد بعيد عن الآخر وأنهما لا يلتقيان ومن ثم فمستقبل مصر فى خطر.
ورجوت الرئيس أن يسمح فى حواره السنوى المفتوح مع المثقفين والذى كان حينها على وشك أن يبدأه فى نفس المكان (بعد فقرة تحيته للفائزين) بتناول إشكالية العلاقة بين البحث العلمة والتنمية خاصة أن رئيس الوزراء وجميع الوزراء كانوا ضمن الحضور.
أيضا، ذكرت لفخامته أنه سيجد ضمن أوراق الأسئلة الموجهة إليه، والتى كان قد جرى تجميعها من الحضور فى بداية اللقاء ورقة حاولت فيها الإشارة إلى هذا الموضوع.
جاءت إجابة الرئيس تلقائية وفورية (وبقدر من الاستغراب) بقوله: «ربنا يسهل».
وبعدها، فى المناقشة، لم تتح لى فرصة تقديم مداخلة. وعندما لمح الرئيس يدى مرفوعة طلبا للحديث نادى على وزير التعليم العالى والبحث العلمى طالبا منه أن يذكر نصيب البحث العلمى فى الموازنة المالية للدولة.
كان ذلك هو كل شىء فيما يختص بحوارى القصير جدا مع الرئيس. وأذكر أنه بعد عدة أشهر عادت الاحتفالية السنوية المسماة «عيد العلم» للانعقاد بعد أن كانت قد توقفت منذ سنوات سبقت.
***
وهكذا، بينما تُجسد الحكايات الثلاث مبلغ إهدارنا للزمن المحدود وعدم تخطينا بعد إلى آفاق الزمان غير المحدود، والذى كان الشهيد العبقرى يتحسب له أثناء حرب الاستنزاف، فإنها تجسد أيضا حاجتنا إلى تغيير جذرى فى وعينا بشأن التعامل مع المشكلة (أو الإشكالية) المزمنة الخاصة بالبحث العلمى والتغيير التكنولوجى فى مصر. ذلك حيث لازلنا – بالفعل – نتعامل مع الشأن العلمى القومى من نفس مستوى الوعى الذى أوجدنا به مشكلاته.
وبعد، إنها مسألة تحتاج إلى مقاربة تقوم على إدراكات ومنطلقات تختلف عما جرت العادة عليه على مدى نحو نصف قرن.

محمد رءوف حامد خبير صناعة الأدوية ورئيس هيئة الرقابة الدوائية السابق
التعليقات