«هيئة السلع التموينية متشائمة، وتتوقع كارثة عالمية فى القمح فى العام الجديد بسبب الجفاف، وتراجع الإنتاج العالمى». هكذا قال نائب رئيسها لـ«الشروق» قبل 3 أيام. وهكذا تعود مصر رسميا لحافة أزمة غذائية على شاكلة ما مرت به فى 2008، وتسببت فى موجة هائلة من ارتفاع الأسعار.
وكما كان الأمر حينها، فإن المسببات الظاهرية تبدو خارجية، تتعلق بالسوق العالمية. وقتها كانت المبررات هى زيادة الطلب الصينى بسبب النمو الاقتصادى هناك، واستخدام الحبوب فى الوقود الحيوى، والمضاربة فى بورصات السلع العالمية.. الخ.
أما الآن فالسبب هو الجفاف، الذى هو على وشك تحويل روسيا من ثالث أكبر مصدر للقمح فى العالم إلى مستورد له، ويوشك على الامتداد لشمال أفريقيا. وفى الحالتين، فإن الإنتاج العالمى من القمح أقل من الطلب عليه.
وفى الحالتين أيضا، مصر تحت رحمة السوق العالمية. ببساطة لأنها أكبر مستورد للقمح فى العالم، حيث إن ما بين 44 إلى 46% مما يأكله المصريون منه لا يزرع فى أراضيهم.
ويزيد الأمر سوءا، أن الحكومة المصرية غير مقتنعة بفكرة الاكتفاء الذاتى. وحتى حين اضطر وزير الزراعة، أمين أباظة، تحت ضغط الرأى العام، لإصدار استراتيجية للاكتفاء الذاتى من الحبوب، فإن ذروة الطموح توقفت عند 80%، وبعد 20 عاما من الآن.
وفى العام الأول من الاستراتيجية، بدلا من زراعة 3.1 مليون فدان بالقمح كما كان مخططا، سيتراجع المزروع منه من 3 ملايين فدان العام الماضى إلى 2.7 مليون فى الموسم الحالى.
ويفاخر أمين أباظة فى تصريحات له قبل أيام، فى افتتاح أحد المؤتمرات، بأن «برامج الإصلاح والتحرر الاقتصادى والخصخصة دعت القطاع الزراعى إلى العمل كقطاع خاص فى الأساس، يعمل وفقا لآليات السوق الحرة».
وبالطبع، فإن الزراعة المصرية لطالما كانت تنتمى إلى القطاع الخاص. ولكن ما يعنيه أباظة هنا هو شىء آخر: هو أن آليات السوق الحرة العالمية للحبوب هى التى صارت تسَيِّر الفلاح المصرى بأعمق صورة شهدها تاريخه.
وتوجه هذه الرؤية، وتقيد، السياسة المصرية فى التعامل مع أزمة الغذاء، التى ستواجهنا، ضاربة الفقراء منا بالأساس، كلما حدث تطور سيىء فى السوق العالمية.
وتقوم هذه الرؤية عالميا على تدمير طرق الفِلاحة القديمة لصالح الرأسمالية الزراعية الكبيرة. تدمير الزراعة، التى يأكل الفلاح وأسرته أولا من منتوجها، ثم مجتمع قريته، لصالح السوق، الذى تدخل فيه الشركات وسيطا يحدد مايزرع ثم بكم يباع وفى أى مكان.
وبالرغم من أن أزمة 2008 قد دفعت العديد من الدول إلى العودة للتفكير فى صورة من صور «الأمن الغذائى». لكن الحلول التى تم تقديمها فى هذا الإطار جاءت لتعمق القضاء على الفِلاحة التقليدية لصالح رأسمالية الشركات الزراعية، وملعبها فى سوق الحبوب العالمية: المحاصيل المعدلة وراثيا، والاستثمار فى زراعة الأراضى خارج الحدود.
وكأى رأسمالى مخلص لعقيدته الفكرية، ومصالحه وأرباحه، يتحدث وزير الزراعة عن الفكرتين لحل معضلة الأمن الغذائى فى مصر.
ويقفز ذكر المحاصيل المعدلة وراثيا فورا كلما تحدثت إلى أحد مسئولى الزراعة عن أزمات الحبوب التى نواجهها.
وتعطى هذه وضعا احتكاريا أو شبه احتكارى فى التقاوى للشركات صاحبة براءة الاختراع، والتى تسيطر على سوقها العالمية شركة أمريكية واحدة هى مونسانتو (شريك رسمى لحكومة مصر فى أبحاث وتدريب الدعاة المحليين للمحاصيل المعدلة وراثيا).
على الجانب الآخر، تحول شراء الأراضى فى الخارج أو تأجيرها لزراعتها، إلى ظاهرة عالمية. ومن 4 ملايين هكتار فقط قبل 2008، قفزت مساحة الأراضى التى استحوذت عليها الشركات العالمية الكبرى لزراعتها إلى 45 مليونا قبل نهاية 2009، أغلبها فى أفريقيا (السودان وإثيوبيا وموزمبيق). وأعلنت الحكومة عن خطة مصرية للمزاحمة على هذه السوق (لتأمين احتياجاتنا من القمح)، ثبت بالدليل القاطع، على الأقل فى الحالة الأوغندية، أنها خطط للدعاية أكثر منها واقعية، بعد أن نفت أوغندا أنها ستسمح لمصر بذلك.
وتوقفت التحركات المصرية فى هذا الإطار عند صفقتين قامت بهما شركات تابعة لمؤسسات مالية مصرية (القلعة وبلتون) للاستثمار فى السودان. لكن هذه الشركات ستواجه منافسة شرسة، كما أنه ليس من المؤكد أنها ستستطيع توريد ما تزرعه هناك لجائعى الوطن.
ومن قال إننا لسنا نحن عرضة لأن نكون هدفا لنفس التوجه؟ فالشركات العالمية، وتحت وطأة انحسار العرض العالمى، بدأت تتفادى الوسطاء فى البورصات وتتوجه مباشرة للمزارعين المحليين، وهى ظاهرة شهدنا لها علامات فى 2008 فى مصر. وفى هذا الإطار يحذر البنك الدولى من أن ظاهرة تأجير وشراء الأراضى وشراء المحاصيل مباشرة، تهدد المجتمعات المحلية وتحرمها من حقها فى الغذاء وفى حصيلة أراضيها الزراعية.
وتقول حركة فياكامباسينا (طريق الفلاحين)، وهى حركة فلاحية عالمية تضم 148 منظمة فلاحية فى 69 دولة، إن الأمن الغذائى إطار قاصر فنيا وسياسيا، ويناسب خطة الرأسمالية الزراعية العالمية فى الريف، لأنه لا يتعارض مع تحويل ما نأكله إلى مجرد طريقة جديدة للربح.
وتدافع «طريق الفلاحين» عما تسميه بـ«السيادة الغذائية». ويعنى ذلك عدة عناصر: أن الغذاء حق إنسانى أساسى، وأن كل البشر يجب أن تكون لديهم القدرة على الحصول على غذاء آمن ومغذى وملائم ثقافيا، وبكميات كافية.
وأن تعطى الأولوية لحماية الموارد الطبيعية دون أن تحكمها قيود الملكية الفكرية. يتضمن مفهوم السيادة الغذائية أيضا التعامل مع الغذاء على أنه أولا مصدر للتغذية ثم ثانيا سلعة للتجارة. ويجب على السياسات الزراعية أن تغير اتجاه أولويات الإنتاج ناحية الاستهلاك المحلى والاكتفاء الذاتى. ولا ينبغى فى هذا الإطار أن تحل الواردات محل المنتج المحلى.
أما العنصر الأخير، فهو أن يصبح للفلاح الصغير قول مباشر فى صياغة السياسات الزراعية على كل المستويات.
لقد انتهت أسطورة تفوق إنتاجية الزراعة الكبيرة (تصنيع الزراعة) على الفلاح الصغير، بثبوت تنوع إنتاج الأخير، وبتطويره الأرض كما فعل على مدى القرون، بطريقة لا تهدم البيئة وتوفر الاحتياجات المباشرة لمجتمع القرية المحلى.
وهاهو البنك الدولى يؤكد فى تقرير له فى سبتمبر الماضى بعنوان «الاهتمام العالمى بالأراضى الزراعية»، أن «واحدة من أهم أولويات التنمية فى العالم يجب أن تكون تحسين حال الفلاح الصغير كشرط ضرورى لمحاربة الفقر والجوع، وأن هناك حاجة عاجلة لزيادة استثمارات الدولة فى البنية الأساسية لخدمة الفلاحين الفقراء».
توجيه بوصلة الأولويات لمصالح الذين يفلحون الأرض، وفى يدهم الشريحة العظمى من زراعة مصر، وليس للقطاع الخاص على طريقة أباظة، هو الشرط الذى لاغنى عنه لكى نحصل على السيادة الغذائية ونأمن الجوع والغلاء