منذ حوالى عقد من الزمان بدأ الجميع يتكلمون عن الذكاء الاصطناعى، هذا الفرع من علوم الحاسب موجود منذ منتصف القرن العشرين لكنى أتكلم عن الناس خارج الدائرة البحثية حتى أن رجل الشارع أصبح يدلى بدلوه فى هذا المجال، بل وظهرت لفظة (brain inspired machines) أو «الآلة المستوحاة من المخ البشرى» وهى عبارة تعطى إيحاء بشىء مبهر وقريب من الخيال العلمى مثل التعبير الأقدم «العقل الالكترونى»، وفى هذا المقال أحب أن نتأمل تلك العبارة بشىء من العمق لأنها ستعطينا فكرة عما نحن مقبلون عليه فى مجال الكمبيوتر بعامة.
آلة مستوحاة من المخ معناه أن الباحثين وجدوا أن تصميم المخ البشرى قد يساعدنا على بناء أجهزة كمبيوتر أكثر تقدما، وجدير بالذكر أن الطبيعة كانت ملهمة لكثير من مصممى البرمجيات مثل الخوارزميات الجينية (genetic algorithms) التى تحاول تقليد ما يحدث فى الصفات الوراثية التى تتغير عبر الأجيال لتصل إلى صفات أفضل، استخدم علماء الكمبيوتر تلك الخوارزميات لإيجاد حلول مبتكرة لمشكلات كثيرة لم يكن من السهل حلها قبلا باستخدام البرمجيات العادية، هناك أمثلة أخرى على استلهام حلول مبتكرة من الطبيعة لتصميم برمجيات أو أجهزة كمبيوتر أفضل لكن دعنا نعود إلى المخ البشرى.
أولا يجب أن نعترف أن العلماء لا يزالون يجهلون الكثير عن عمل المخ البشرى والذى يعتبر من أعقد الأجهزة فى الكون المعروف لنا على الأقل، مثلا لا يستطيع العلماء تعريف الوعى بسهولة، وهناك الكثير الذى ما زال مجهولا أو معرفة العلماء به ما زالت بسيطة، وللدلالة على مدى تعقيد المخ البشرى هنا قصة صغيرة متعلقة بورشة عمل حضرتها شخصيا نظمتها جامعة نيويورك منذ عدة سنوات، كانت الورشة بعنوان «فلسفة العقل» وشارك فيها سواء بالحضور أو إلقاء كلمة أو الاشتراك فى النقاشات باحثون من تخصصات متباينة مثل علوم الأعصاب والفلسفة وعلوم وهندسة الحاسبات وعلم النفس، وعندما ترى هذا الجمع ومن جامعات مرموقة مشترك فى نقاشات حادة فى بعض الأحيان تعرف أنهم لم يعرفوا إجابات كثيرة عن المخ بعد وتعرف أيضا أن الموضوع أعقد من أن يضطلع به تخصص واحد.
إذا نحن نعلم بعض الأشياء عن طريقة عمل المخ وما زلنا نجهل الكثير، وهنا يأتى السؤال الثانى:
كيف نستفيد من القليل الذى نعرفه عن المخ فى مجال الكمبيوتر؟ هل نريد أن نبنى جهازا للكمبيوتر يعمل بالضبط مثل المخ البشرى؟ هذا لا يمكن فى الوقت الحالى لأننا كما قلنا لا نعرف كل شىء عن المخ، لكن لنفترض أننا نعرف كل شىء عن المخ فهل نريد أن نبنى نسخة إلكترونية من هذا المخ؟ قد تبدو هذه فكرة جيدة لكن دعنا ننظر بعمق قليلا: نحن كبشر ننسى فهل تريد أن تبنى جهاز كمبيوتر ينسى؟ نحن نتذكر الكثير من الأشياء بالتقريب فهل تريد جهازا كهذا؟ الإجابة بالطبع لا لأننا لا نريد جهازا يبرع فيما نبرع نحن فيه لكننا نريد جهازا يساعدنا فيما ينقصنا، اخترعنا السيارة مثلا لأننا لا نستطيع السير بسرعة ولمدة طويلة، إذا فما الذى ينقصنا ونريده من جهاز الكمبيوتر؟ القدرة الكبيرة على الحساب والعمل بدون ملل والقدرة الكبيرة على التذكر والحفظ، هذا موجود فى الأجهزة الحالية، لكن كى يصبح الكمبيوتر أكثر فائدة نريد منه القدرة على التعلم لكن بسرعة أكبر من الإنسان العادى حتى نحصل على نتائج سريعة، نريد جهازا يربط معلومات كثيرة جدا ببعضها للوصول إلى استنتاجات جديدة، نحن كبشر نستطيع فعل ذلك لكن ببطء وليس مع مجموعة كبيرة من المعلومات ونتعب ونشعر بالملل.
هناك نقطة مهمة متعلقة بتعامل المخ البشرى مع الأعطاب، إذا أصاب حاسة من الحواس عطب مثل العمى مثلا فإن الخلايا العصبية فى المخ المتعلقة بالنظر تُستخدم فى وظائف أخرى وتسمى نلك الخاصية (plasticity)، فى أجهزة الكمبيوتر إذا أصاب أى قطعة عطب فقد يعطل الجهاز كله، هل نستطيع بناء أجهزة كمبيوتر ذات كفاءة فى التعامل مع الأعطاب مثل المخ لأن طريقتنا الحالية فى تصميم أجهزة كمبيوتر لا تعطب ليست الأفضل.
ما أردت قوله فى هذا المقال إننا يجب أن نكون محددين فيما نريد أن نتعلمه بالضبط من المخ، نحن لا نبنى نسخة أخرى من المخ البشرى لكن نريد بعض الصفات التى تجعل الأجهزة الحالية أكثر كفاءة، يجب أن نحسن استخدام الذكاء الطبيعى حتى نبنى أجهزة أفضل متمتعة بالذكاء الاصطناعى.