نشرت صحيفة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى، تناولت فيه تراجع عدد كبير من الدول على مستوى احترام حرية الرأى والتعبير، نتيجة السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بجانب الإطارين القانونى والأمنى، متسائلة هل هذا هو مشروع الإصلاح! مشروع يقوم على تغيير السلوكيات والذهنيات والقناعات!... نعرض من المقال ما يلى:
فى سياق عالمى عُرف بالنكوص والتراجع عن القيم الجوهرية والمدّ الشعبوى لا تعدّ «معاداة الإعلام وحرية التعبير والتعددية» ممارسة مفاجئة بل هى أمر متوقّع، خاصّة إذا قارنا الوضع التونسى بأنظمة أخرى أفادت من ركائز الديمقراطية ومن حريّة التعبير لتحقّق ما تصبو إليه ولكنّها ما إن أسست دعائم السلطة حتى قيّدت حريّة الصحافة وصادرت حريّة التعبير. فإن عدنا إلى التجربة الهندية بعد صعود اليمين الهندوسى القومى فى السنوات الأخيرة، تبيّنا أنّ تقييد الحريات وتصميت الأصوات المعبّرة عن مواقف مختلفة قد تجاوز المجال السياسى ليشمل الأكاديميا وليؤسس لثقافة نبذ التنوّع والاختلاف والتعددية الفكرية. وما كان بالإمكان الوصول إلى هذه الأهداف لولا معاضدة عدد من البرلمانات مثلما حدث فى الولايات المتحدة الأمريكية فى فترة حكم ترامب.
هذا هو الوضع الذى أكّده مؤشر حرية الصحافة العالمى لسنة 2022 الذى وضّح أنّ السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإطارين القانونى والأمنى ماعادت تمكّن العاملين والعاملات بالقطاع من ممارسة الحق فى البحث عن الأخبار، واختيار المعلومة وبثّها وإنارة الرأى العام، لاسيما بعد ارتفاع منسوب العنف والتهديدات والترويع، الأمر الذى أدّى إلى تراجع عدد من البلدان على مستوى احترام حرّية التعبير وارتفاع عدد البلدان التى تناهض هذا الحقّ نذكر على سبيل المثال بولندا وبلغاريا وإيريتريا ومالى فضلا عن البلدان التى لها تاريخ «عريق» مع مصادرة الرأى المختلف.
وانطلاقا من هذا التوصيف العام صار التصوّر الذى تريد الدولة ترسيخه هو أنّ الإعلام لا يمثّل سلطة بل هو مجرد وعاء mailbox أو صندوق لتلقى الرسائل التى يريد النظام تبليغها إلى الرأى العام، وأنّ الصحفى والصحفية/الإعلامى والإعلامية/... ليس إلاّ مجرد أداة للرسائل والتوجيهات ومن هنا تتغير نظرتهم إلى مهنتهم وتموقعهم وذاتهم. أمّا التضييق على الحريات فإنّه صار يبرّر بأنّه إجراء اتّخذ لتحقيق مصلحة عليا تتمثّل فى تمكين المرفق العمومى ومختلف المؤسسات بما فيها مجلس الشعب، من العمل، أى أنّه إجراء متنزّل فى إطار مشروع إصلاح ما أفسده من أمسكوا بزمام الأمور طيلة العشرية السابقة، ولذلك لم يكن تصريح رئيس مجلس الشعب مباغتا فهو ينطلق من قناعة مفادها ضرورة إعادة ترتيب الأولويات وهكذا فإنّ إلغاء قانون 54 لا يأتى على رأس «أولويات الشعب» فنحن لا «نتنفس حرّية».
فهل تعنى هذه الخطابات الرسمية أنّ مشروع الإصلاح لا يشمل المؤسسات والهياكل فقط بل إنّه يطال قيم وممارسات socialisation الأفراد؟ وهل نحن أمام مشروع إعادة تنشئة التونسيين والتونسيات وتربيتهم تربية مختلفة عن تلك التى عهدوها، ويجب أن تحلّ محلّ ما آمنوا به وترسّخ فى المتخيل العام منذ عقود؟ وهل يمكن تطويع الأجساد حتى تدخل هذه المعايير والقيم وتنضبط للمطلوب منها؟
ونقدّر أنّ رجوع عدد من الصحفيين إلى «عاداتهم القديمة» وميل فئة أخرى إلى الامتثال للمطلوب يؤّكد أنّ أسباب ممارسة الرقابة الذاتية والعدول عن المبادئ والقيم تتجاوز أهل القطاع إلى شرائح أخرى من الشعب التونسى الذين باتوا مجرد مشاهدين/شاهدين ومتابعين سلبيين يتلقون الأخبار ولا يتجرءون على التفاعل وإبداء الرأى، والدخول فى نقاشات إنّه العود إلى الهمس وسلوك «البصبصة».
ونذهب إلى أنّ إعادة الهيكلة والتشكيل أو الصناعة على حدّ قول الجاحظ قائمة على تغيير الذهنيات والسلوكيات والممارسات والقناعات والمرجعيات ولغة الخطابات ودلالات المصطلحات والمفاهيم التى دأبنا على توظيفها. إنّها مرحلة لابدّ أن تجبّ ما قبلها من خلال الهدم وتقييد فعل التذكّر والتحفيز على النسيان وتسييج الحنين إلى ما كان.. إن هى إلاّ أضغاث أحلام.
وبناء على هذا التصور ليس المطلوب من الجموع إلاّ التكيّف والتأقلم مع السياق الجديد والانضباط حتى يكون التونسى والتونسية (عبادا صالحين) أمّا إذا اختاروا المقاومة والصمود والعصيان فهم «ضَلَّوا سَوَاءَ السَّبِيلِ» وبذلك تسوّق صورة الشعب التونسى الجديد وفق قاعدة الثنائيات المتضادة: الخير/الشر، الصلاح/الفساد، الهدى/الضلال.