هجرة الأطباء - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 2:32 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هجرة الأطباء

نشر فى : السبت 15 أبريل 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : السبت 15 أبريل 2023 - 8:15 م

أثارت الهجرة المتسارعة للأطباء من مصر الانزعاج فى السنتين الأخيرتين، وهى وجدت طريقها إلى الصحافة بل وإلى البرلمان بوتيرة لم تكن معروفة من قبل، حتى أن الرأى العام انتبه إليها، فأصبحت هذه الهجرة قضية يتناولها الناس بالنقاش. هذا تطور محمود حان أوانه بالفعل، فهجرة الأطباء ليست جديدة وارتفاع إيقاعها لم يحدث فجأة، ولكن الوعى بهما ظل محصورا. هجرة الأطباء تندرج فى إطار هجرة مرتفعى المهارات المتعلمين تعليما عاليا التى صار النقاش بشأنها محل تجاذب بين مفهومين، واحد منهما يرجع إلى مطلع الخمسينيات من القرن الماضى والثانى أحدث، ألا وهما نزيف الأدمغة التى تتسبب فيه هذه الفئة من الهجرة، واكتساب الأدمغة الذى تؤدى إليه. سنعود إلى مناقشة موجزة لتطبيق هذين المفهومين على الحالة المصرية بعد أن نستعرض حجم هجرة الأطباء من مصر ودوافعها فى حدود البيانات المتوافرة عنها.

حجم هجرة الأطباء والدوافع إليها

لا توجد بيانات عن حجم هجرة الأطباء من مصر ولا عن نسبتهم إلى مجموع الأطباء المصريين. كل ما هنالك هو تقديرات وهى فى معظمها تتلاقى عند رقم الثمانين ألفا من الأطباء المصريين العاملين خارج مصر، ستون ألفا منهم فى بلدان الخليج وفى المقدمة منها، وبفارق كبير عن البلدان التى تليها، المملكة العربية السعودية، والعشرون ألفا الآخرون فى الدول الأعضاء فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، أى فى أوروبا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا. فى أوروبا تأتى بريطانيا وألمانيا فى مقدمة الدول المستقبلة للأطباء المصريين.

إن قبلنا بتقدير الثمانين ألفا من الأطباء المصريين المهاجرين، فإن نسبتهم إلى عدد الأطباء المصريين المسجلين فى نقابة الأطباء المصرية غير معروفة، والسبب هو أن عدد الأطباء الحاليين والممارسين لمهنة الطب غير موجود. الأطباء المسجلون فى نقابة الأطباء بلغوا فى سنة 2021 المائتين والثلاثين ألفا، إلا أن هؤلاء هم مجمل الأطباء الذى انضموا إلى النقابة منذ نشأتها فى سنة 1941، بمعنى أن هذا الرقم يشمل من غادروا الحياة ومن كفّوا عن ممارسة الطب.

الدوافع الرئيسية للأطباء إلى الهجرة هى شروط العمل وظروفه، وهى شروط تؤثر بدورها على ظروف معيشتهم ونوعيتها. شروط العمل وظروفه هى الأجور التى تستحق للمشتغلين، وساعات عملهم، وراحاتهم الأسبوعية، وإجازاتهم السنوية، وفرص تدريبهم والارتقاء فى وظائفهم، والتأمينات الاجتماعية التى يتمتعون بها، وغيرها من المزايا التى ترتبها علاقة العمل. فى نفس سنة 2021 كان أجر الطبيب الشاب بعد تخرجه وقضائه فترتى الامتياز والنيابة والتحاقه، مثل الأغلبية الساحقة من الأطباء، بالعمل فى أحد مستشفيات وزارة الصحة أقل من الثلاثة آلاف جنيه. القلة من الأطباء المعينة فى الجامعات، والتى تلتحق بالمستشفيات الجامعية، أجورها لم تكن أفضل كثيرا. الطبيب المقيم فى مستشفيات وزارة الصحة أجره قلّ عن الأربعة آلاف جنيه، وبعد سنوات وارتقاؤه إلى مستوى الاستشارى المتخصص فإن أجره تراوح بين السبعة والثمانية آلاف جنيه. بخلاف الأجر، شروط العمل وظروفه هى نظريا وعموما مقبولة، إذ تحق للأطباء الراحات الأسبوعية والإجازات السنوية، وساعات عملهم محددة، كما أنهم يتمتعون بالأمان الوظيفى. فى الواقع الأمور تختلف. قد تُرفَضُ طلبات الحصول على إجازات سنوية بسبب نقص الأطباء فى المستشفيات، وساعات العمل قد تمتد بهم وتتعدى عدد الساعات الإضافية التى تنص عليها اللوائح والتى تؤَدّى عنها وحدها المكافآت. بعبارة أخرى، كثيرا ما يضطر الأطباء الشباب إلى قبول العمل لساعات إضافية أكثر من الساعات العشر التى تنص عليها اللوائح دون أن يتقاضوا مقابلا عما فوق هذه الساعات العشر. بعض هؤلاء الأطباء يتفقون فيما بينهم على أن يعمل كل منهم لأربع وعشرين ساعة متواصلة حتى يتمتعوا براحاتهم الأسبوعية. مصرع طبيبين شابين أخيرا من شدة إنهاكهما مازال ماثلا فى الأذهان. انخفاض الأجور يدفع الأطباء، بعد أن ينتهوا من خدماتهم فى المستشفيات الحكومية، إلى أن يتنقلوا بين مستشفى خاص وآخر يعملون به ليرفعوا من مستوى دخولهم. إن كانوا فى القاهرة الكبرى، فهم يتنقلون فى العاصمة المزدحمة بين شمالها وشرقها وجنوبها يقضون ساعات فى سياراتهم غير ساعات العمل فى المستشفيات الخاصة بعد العامة، فيستحيل عليهم قضاء أوقات مع أسرهم أو التخطيط لحيوات خاصة. فى المستشفيات الخاصة، مكافآتهم مقابل نوباتهم، أو حسب عدد المرضى الذين يعودونهم. لا عقود لهم ولا أيام راحة أسبوعية، فاليوم الذى لا يذهبون فيه للمستشفى لا مقابل له. أما فرص مواصلة التعليم فوق الجامعى والتخصص بالجامعات وببرامج الزمالة التى أنشأتها وزارة الصحة فهى محدودة للغاية، بما يعنى أن أغلبية الأطباء يبقون ممارسين عامين لا يعمقون من معارفهم ولا يتقدمون فى مهنتهم. محصلة انخفاض الأجور، وإرهاق الكدّ من أجل تحسين دخولهم وأثره على الحياة الخاصة لكل منهم، وانغلاق سبل رفع مستوى معارفهم وتحقيق ذواتهم هى أن يبحث الأطباء عن فرص للعمل فى الخارج، بعبارة أخرى عن فرص للهجرة.

غير أن الهجرة ليست فقط مسألة عرض للعمل، وإنما هى أولا مسألة طلب على هذا العمل. الطلب موجود فى بلدان الخليج التى، وإن كانت جامعاتها وغيرها صارت تخرِّج الأطباء من المواطنين كل عام، فإن أعدادهم ما زالت قاصرة عن تلبية الطلب على الخدمات الطبية مع ارتفاع أحجام السكان فيها، بما فى ذلك المهاجرون إليها من مختلف الأنحاء. أما دول أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا فهى تعانى من انكماش قوى العمل الوطنية وشيخوخة السكان فيها، فيترتب على ذلك تفاوت بين العرض والطلب على الخدمات الطبية لا تستطيع الجامعات فيها علاجه. الطلب إذن موجود ويتزايد فى هذه الدول. بلدان الخليج ودول أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا نشطة فى اجتذاب الأطباء إليها، وهو نشاط مغرٍ للأطباء المصريين الذين يعانون فى السوق الطبية المصرية، بل وبلغ هذا النشاط حدّ التنافس بين هذه المجموعة من البلدان وتلك، فصار الأطباء المصريون ينتقلون مباشرة من بلدان الخليج، خاصة السعودية، إلى البلدان الأوروبية وفى مقدمتها بريطانيا.

اكتساب الأدمغة ونزيفها

الأطباء مثل غيرهم من مرتفعى الكفاءات عموما، فى مصر وفى غيرها، ليسوا ممن يرسلون تحويلات مالية إلى ذويهم بشكل منتظم، وعلى أى حال فإن هذه التحويلات لا تعتبر اكتسابا للأدمغة الّلهم إلا إن ذهبت لتمويل تعليم أفراد أسرهم من الأطفال والشباب. تحويلات الأطباء المصريين غير المنتظمة، إن لم تكن لتسديد ديونهم التى موّلوا بها هجراتهم، فالغرض منها مساعدة أسرهم وبالتالى يمكن اعتبار أن أجزاء منها تخصص للتعليم. الأطباء الموجودون فى الخارج ينقلون معارفهم وخبراتهم، من خلال الأنشطة عبر الوطنية، عندما يعود البعض منهم بشكل منتظم أو متقطع ليعالج المرضى المصريين أو لإجراء جراحات لهم. هذه الأنشطة عبر الوطنية ليست قليلة إلا أن البيانات عنها غير موجودة. العودة إلى بلد المنشأ بما اكتسبه المهاجر من معارف ومهارات هى من قنوات اكتساب الأدمغة. من المؤسف أن الأطباء المصريين الموجودين فى الخارج نادرا ما يعبرون عن نيتهم فى العودة إلى مصر لممارسة الطب فيها. إن عادوا فهو للتقاعد فيها أو للقيام بأنشطة غير الطب. القليل منهم فقط من ينتقل إلى إدارة المؤسسات الطبية وفى هذا بغير شك نقل للمهارات واكتساب للأدمغة.

الآراء منقسمة فيما إذا كانت مصر تعانى من نقص فى الأطباء. إن كان ثمة نقص، فإنه يصعب منهجيا إرجاعه إلى الهجرة، غير أن العلاقة الطردية بينهما لا يمكن نفيها. فى مقال منشور فى مجلة علمية مرموقة فى سنة 2019، أورد وزير الصحة الأسبق، الدكتور عادل العدوى وزميلته الدكتورة غادة رضا رقم الأطباء العاملين فى وزارة الصحة فى سنة 2014، استنادا إلى المسح السكانى الصحى لذلك العام، وهو 72,900 طبيب وطبيبة بمعدل 8,4 طبيب لكل عشرة آلاف مواطن ومواطنة، وطبيب لكل سرير من أسرة وزارة الصحة ويتضاعف هذا المعدل نظرا لأن إشغال أسِرَّة الوزارة لا يصل معدله إلا إلى الخمسين فى المائة. خَلُصَ الباحثان إلى أنه لا يوجد نقص فى الأطباء فى مصر وإنما المشكلة تكمن فى سوء توزيعهم. الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء وفى نفس سنة 2019، فى النشرة السنوية للخدمات الصحية، أعلن أن عدد الأطباء فى مصر فى سنة 2018 كان 205,183 مرتفعا من 93,102 فى سنة 2014. هذا الارتفاع الحاد فى مجرد أربع سنوات يدعو للاندهاش والتساؤل. غير أن نفس هذه النشرة أوردت أن عدد المستقيلين فى سنة 2018، أى قبل اندلاع الوباء، كان 3,507 طبيب وهو رقم يدعو للانزعاج خاصة إن انتبهنا إلى أن النشرة لم تورد رقما لمن أخذوا إجازات غير مدفوعة الأجر ويفترض أن النسبة الأكبر منهم هاجرت هى الأخرى للعمل فى الخارج. على خلاف تقدير الدكتورين العدوى ورضا، تقرير التنمية الإنسانية لمصر لسنة 2021 يذكر أن معدل الأطباء لكل عشرة آلاف مواطن ومواطنة فى المؤسسات العامة والخاصة معا فى سنة 2017 كان 11,3 وهو معدل اعتبره منخفضا. هذا المعدل المتوسط أخفى تباينا هائلا بين المحافظات فبينما ارتفع إلى 17,5 فى واحدة منها، انخفض إلى 3,7، و3,5، بل وإلى 2,9 و2,6 فى محافظات أخرى. هذه المحافظات فى الوجهين البحرى والقبلى معا وإن تعددت فى هذا الأخير. فى تدقيق إضافى، يلاحظ مسئول سابق أنه فى نفس هذه المحافظات، يتباين المعدل بين المناطق الحضرية فيها حيث يرتفع نسبيا، والمناطق الريفية حيث يتفاقم تدهوره. انخفاض العرض من الخدمات الطبية فى أغلب المحافظات وخاصة فى المناطق الريفية فيها يستدعى إلى تحليل الأطروحة النظرية عن انخفاض العرض من الخدمات الطبية ومستواها فى المناطق الريفية بالتوازى مع هجرة الأطباء للعمل فى خارج بلدانهم.

البيانات ليست كافية، لا فى مصر ولا فى غيرها، لحساب ميزان الأدمغة المتحقق نتيجة للهجرة، غير أنه مشروع تماما افتراض ارتفاع مقدار نزيف الأدمغة عن اكتسابها، خاصة مع استمرار هجرة الأطباء بأعداد كبيرة وفى ضوء ما يطرحه باحث بلجيكى من أى هجرة لمرتفعى المهارات تتعدى العشرة فى المائة من المتوفر منهم فى أى بلد من البلدان تعتبر نزيفا للأدمغة. بالرغم من نقص البيانات، فمن المشروع تماما اعتبار أن هجرة الأطباء المصريين تتعدّى هذه النسبة، وتتعداها كثيرا، وأن المواطنات والمواطنين يبقون فى مناطق كثيرة فى مصر، خاصة الريفية منها، بدون الخدمات الطبية التى يحتاجونها.
• • •

هل نخلص مما تقدم أن على الدولة أن تقيِّد حرية الأطباء فى الهجرة كما ورد أخيرا فى مقترح برلمانى؟ حسنا فعل المتحدث باسم نقابة الأطباء بمعارضته لهذا المقترح. تشديد المتحدث على ضرورة تحسين بيئة العمل، بما فى ذلك الأجور، لحث الأطباء على الاستمرار فى العمل فى مصر، هو السبيل السليم الذى ينبغى سلوكه. هذا مع التعليم هى أولى أولويات الإنفاق العام. وربما يحين الوقت قريبا لتثير الدولة وحدها فى علاقاتها الثنائية مع البلدان المستقبلة، أو فى إطار تآلف مع بلدان المنشأ الأخرى، وعلى المستوى متعدد الأطراف، مسألة هجرة الأطباء حتى تساهم البلدان المستقبلة، من خلال سياساتها التنموية، فى تكوين الأطباء وفى توفير البيئة اللازمة لأداء الخدمات الطبية المطلوبة فيها.

تتحدث الدولة أحيانا عن جعل مصر مركزا للسياحة العلاجية. لا يمكن أن ينجح ذلك وأطباؤها يتسربون منها، وكثيرون من مواطناتها ومواطنيها لا يلقون العلاج الذى يحتاجونه.

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات