تُجمع كتب التاريخ على أن مجموعة من «أهل مصر» شاركوا (وفى رواية أخرى قادوا) عملية حصار ثم قتل الخليفة عثمان بن عفان (رضى الله عنه وأرضاه). وتذهب بعض الكتب إلى القول بأن الحسن البصرى وصف قتلة عثمان بأنهم «أعلاج من أهل مصر». وعلى سبيل التخصيص هناك إشارات متعددة إلى صحابى يُسمى عبدالرحمن بن عديس البلوى باعتباره قائد أهل مصر الذين حاصروا عثمان وأخيرا قتلوه.
والحقيقة أن هذه التفاصيل ليست هى أهم ما يعنينى فى هذا المقال، ولكن ما يعنينى هو لماذا يخرج نفر من أهل مصر عن طاعة الحاكم على الرغم من المعروف عنهم من وداعة واعتدال يصل لدرجة السلبية كما ذهب جمال حمدان فى وصف الشخصية المصرية.
والمثير للتأمل أن مطالب المصريين كانت دائما معقولة للغاية بمعايير العصر الذى كانوا ينتمون إليه بل حتى بمطالب العصر الذى نعيشه، ويبدو أنها هى نفسها مطالب المصريين حتى الآن والتى يمكن اختصارها فى كلمة واحدة وهى: العدل. فمن يساويك بنفسه فما ظلمك، والحاكم الذى ينشر المساواة فى تطبيق القانون بدءا بنفسه وأهله وجبت طاعته على الجميع.
فمصريو القرن السابع الميلادى كانوا يطالبون بحياة كريمة تراعى ظروفهم الاقتصادية الصعبة بسبب تأخر فيضان النيل. وكان الحاكم العربى عبدالله بن أبى السرح قاسيا فى جمع الضرائب مقارنة بعمرو بن العاص، ففى عهد عمرو كان الخراج والجزية التى يرسلها للخليفة عثمان بن عفان فى المدينة (كما قال البلاذرى فى كتابه فتوح البلدان) نحو ألفى ألف دينار (أى 2 مليون دينار) ولكن فى عهد عبدالله بن أبى السرح تضاعفت الخراج والجزية حتى بلغت أربعة آلاف ألف دينار (أى 4 ملايين دينار).
حتى قال عثمان بن عفان لعمرو بن العاص (رضى الله عنهما) «إن اللقاح بمصر بعدك قد درت ألبانها» أى إن أراضى مصر وثرواتها قد أتت بمال أكثر مما كان فى عهدك. فرد عمرو: «ذاك لأنكم أعجفتم أولادها» أى لأنكم بالغتم فى فرض الخراج والجزية (وهو ما يرويه ابن جرير الطبرى فى تاريخ الطبرى برواية مشابهة) وكان عمرو بن العاص أكثر تسامحا مع المصريين سواء كان ذلك تأليفا لقلوبهم وأمنا لشوكتهم أو مراعاة لاحتياجاتهم الاقتصادية. ولكن لا شك أن ابن أبى السرح لم يكن على نفس القدر من التسامح فبدا ظالما حتى شكاه المصريون إلى الخليفة عثمان أكثر من مرة ولكنه لم يستجب للشكاوى.
واختلف المفسرون فى سبب عدم استجابة الخليفة، بعضهم تعلل بكبر سنه (ولو صح هذا لكان الأولى أن يترك الحكم لمن هو أصح منه بدنا)، وبعضهم تعلل بكثرة الوشاية التى جعلته لا يميز الصحيح من الخبيث من مثل هذه الشكاوى (ولو صح هذا لكان الأولى أن يرسل إلى مصر من يتحقق من صحة الخبر)، ومنهم من قال إنه ما أراد عزله لأن عبدالله بن أبى السرح أخوه من الرضاعة أو من أمه (ولو صح هذا فالأولى بحكام المسلمين أن يجنبوا أقاربهم مواضع الحكم درءا للشبهة). وبما أننا لا نعرف فى زماننا هذا تحديدا ما السبب فلا نملك إلا أن نحسن الظن بالجميع دون أن نغفل حقيقة أن المظلمة وقعت وأن القتل حدث وأن الفتنة بدأت.
وتُروى القصةُ بصيغ عدة تنتهى كلُها إلى أن عددا من أهل مصر والكوفة والبصرة قد رأوا محاباة عثمان لأهله من بنى أمية وظلما لغيرهم فى توزيع المناصب والعطايا ما عهدوه فى حكم سابقَيْه رضى الله عنهما، فأحل أهلَ القربى والثقة محلَ أهلِ التقوى والخبرة فاختلف معه بعضُ الصحابة الكبار مثل أبى ذر وابن مسعود واعتزل آخرون شئون الحكم طاعةً لخليفة كانوا يَرَون مخالفته إشعالا لنار الفتنة، وبالتالى كانت طاعتُه خيرَ الشَرّين كما يقول الفقهاء.
والحقيقة أن البعض يحاول تفسير القصة من منظور الصراع القبلى بين بنى أمية وبنى هاشم. وهو ما يرفضه الأستاذ العقاد مثلا على اعتبار أن هذه الخلافات القبلية ما كانت لتثير الفتنة لولا سوء الحكم وانتشار المظالم. وكأنه فى هذا يوافق ابن خلدون والذى وإن أعطى العصبية القبلية حقها فى تفسير تاريخ العرب والحضارات الأخرى إلا أنه وضعها فى سياق أكبر بقوله: « الظُلم مؤذْنٌ بخرابِ العمران» فإن حل الظلم، فالخراب قادم.
وأشد أنواع الظلم هى ظلم الحاكم لرعيته. وهو ما عبر عنه فلاح مصر الفصيح فى البردة الفرعونية المعلقة الآن فى متحف برلين فى شكواه لرئيس الديوان الملكى من أنه: «يجب على رجال الحكومة أن يقضوا على الظلم ويقيموا العدل ويوفروا الطعام والملبس والدفء لأفراد الشعب وأن يقفوا إلى جانب الفقير ضد الظالم، فالصالح المؤمن هو من يهتم بأرزاق الناس ويحميهم من المعتدين على أرزاقهم». بل إن الفلاح الفصيح يهدد رئيس الديوان الملكى بأنه إذا لم يستجب لشكواه فإنه سيستجير بـ«أنوبيس» حامل ميزان العدل فى محكمة أوزوريس فى العالم الآخر. ولم يحتج الفلاح الفصيح لتصعيد الأمر، لأن رئيس الديوان قد رد له حماره الذى أخذه منه موظف حكومى ظلما.
ويسجل التاريخ للمصريين قدرة هائلة على التكيف مع المجاعات والقحط والكوارث بل كانوا صابرين مجتهدين مجدين فى مواجهة غوائل الدهر. ولم يكونوا ليثورا إلا إذا تأكدوا أن الظلم قد بلغ محله، وأن الصبر والموت سواء. ومن ذلك ثورة الفلاحين منذ أكثر من 4000 عاما فى عهد آخر ملوك الأسرة السادسة (بيبى الثامن) حيث امتنع الفلاحون عن دفع الضرائب وهجموا على المخازن الحكومية وبعثروا محتويات مكاتب الموظفين وقتلوا الكثيرين منهم وأحرقوا قصور الملك والأغنياء وفتحوا قبورهم وبعثروا أشلاءهم. وفى بردية «نفرتى» تصوير لهذه الأحوال التى جسدها قول الحق سبحانه: «وبئر معطلة وقصر مشيد». ففى هذه البردية جاء ما يلى: «انظروا إلى الصناع إنهم لا يعملون، فقد أضاع أعداء البلاد (يقصدون الحاكم وأعوانه) ما فيها من حرف... إن الكهنة يعملون ضد مصلحة الشعب».
ومن نحو 3000 عاما أضرب فلاحو المحاجر فى عصر رمسيس الثانى عن العمل للظلم الواقع عليهم واضطر رمسيس الثانى أن يتوجه إليهم ويلقى عليهم خطابا وكأنه أول قانون عمل فى تاريخ مصر يحدد فيه رمسيس للعمال حقوقهم فى الطعام والماء البارد وفى الملبس والعطر وجعل العمل بالتناوب لكل فلاح مع عطاء لأهله سواء فى الوجه البحرى أو القبلى من الحبوب والملح. ولكن يبدو أن عدل رمسيس الثانى (النسبى) لم يستمر طويلا بعد وفاته فدخل المصريون فى سلسلة من الإضرابات صغيرة العدد قصيرة الزمن من أجل مطالب أشبه بوقفات المصريين الحالية أمام مجلس الشعب وكأن الظلم فى هذه الأرض له تاريخ طويل، فتتغير الأسماء والتواريخ ويظل المصرى آملا فى حياة من العدل.
ماذا عن المستقبل؟
لا نريد أن يكون مستقبلنا نسخة من ماضينا: لا نريد أن يكون مستقبل هذا الوطن فى النماذج الثلاثة التى عرضها المقال: البلوى الذى قَتل، والفلاح الفصيح الذى شَكا، والفلاح المجند الذى أضرب، وإن شاءت السلطة تعطفت ومنحت وإن شاءت تعنتت ومنعت. المهم أن نصل إلى مرحلة المصرى الذى انتخب.
نريد أن تكون لنا حقوق نباشرها بأنفسنا فى انتخابات حرة نزيهة يتحول فيها المحكوم إلى حاكم ويتحول الحاكم إلى محكوم. نريد أن يتحول الحاكم إلى موظف عام إن أحسن استمر وأن أساء فليترك منصبه لمن هو أقدر منه.
إن أمم العالم أجمع قد خطت خطوات واسعة نحو مستقبل أفضل ونحن لم نزل نُحكم بشعارات الباطل التى يراد بها باطل متعللين بحجج لا يرقى إليها منطق سوى عجز نخبتنا الحاكمة أن تتخيل مستقبلا أفضل مما نحن فيه. فالهند تعيش ظروفا اقتصادية أسوأ من مصر، وانقساماتها الدينية أعظم من الانقسام الكائن فى مصر، وحوادث الإرهاب فيها أشد وطأة من مصر، وحدودها أكثر دموية من حدود مصر، وخاضت حروبا أصعب وأشرس من حروب مصر، وعدد سكانها أضعاف عدد سكان مصر، ومع ذلك ديمقراطيتها أكثر رسوخا وقوة وعمقا من ديمقراطية مصر، وليست بحاجة لأن تحتمى وراء قوانين استثنائية كما يفعل الحزب الحاكم فى مصر، كما أن مؤشرات التنمية فيها تتقدم بمعدل أعلى من معدلات التنمية فى مصر. ولكنها دولة حزب المؤتمر الهندى برموزه غاندى ونهرو ومان موهان سنج ونحن دولة الاتحاد الاشتراكى والتنظيم الطليعى والحزب الوطنى، والحمد لله على الستر.