فى المناظرة الرئاسية بين عمرو موسى وعبدالمنعم أبوالفتوح وقف المرشحان على أقدامهما لساعات يعرضان برامجهما وأفكارهما وتاريخهما يطلبان عرش مصر من جمهور الناخبين، وهو مشهد غير مسبوق فى العالم العربى: أن يطلب العرش من أصحابه لا غيرهم، بعد أن دفعوا الثمن من فلذات أكبادهم وأعينهم.
ويمكن النظر للمناظرة من جهات عدة، أولها الأداء الشكلى للمرشحين، وفيه تفوق موسى، الذى كان خطابه استعراضيا قويا وإن خلا من المضمون ومن عرض تفصيلات برنامجه، وكانت استراتيجيته الرئيسية محاولة تخويف الجمهور من أبوالفتوح باعتباره صاحب خطاب متناقض وأجندة مزدوجة، غير أنه فى النهاية فقد أعصابه واتجه لتوجيه إساءات مباشرة لخصمه، كاتهامه بالعجز عن الفهم، وقوله أنه يعمل له دعاية لكتابه ليبيعه لو لم يوفق.
ولم يكن أداء أبوالفتوح فى هذه النقطة جيدا، إذ عابه الاستفاضة حيث وجب الاختصار، والرد فى نقاط غير مرتبة أحيانا، والانشغال بالدفاع عن نفسه كثيرا، وبإعادة توجيه الاتهام لموسى باعتباره من رجال مبارك غالبا، فكانت المحصلة أن أهدر بعض المناظرة فيما لا يهم جمهور الناخبين ولا يتعلق بمستقبل الوطن وإنما بماضى المرشحين.
وقد عكست المناظرة بعض النجاحات الجزئية التى حققتها الثورة، كما عكست بعض معاركها ومشكلاتها، فأما نجاحاتها فكان أولها اتفاق المرشحين على الضرائب التصاعدية، وعلى الحدين الأدنى والأقصى للأجور، وهى أمور لم تكن مطروحة بجدية قبل الثورة، ولم تكن ــ حتى أسابيع معدودة مضت ــ محل اتفاق بين المرشحين الرئاسيين.
وبدا فى المناظرة استعداد أبوالفتوح لخوض بعض معارك الثورة دون غيرها، وهو أمر لابد من قراءته فى ضوء موقعه كمرشح رئيس فرصه فى الفوز أعلى من المرشحين الآخرين المنتسبين للثورة، ويمكن تلخيض المعارك التى خاضها فى سبع معارك رئيسية، أولاها معركة حق التظاهر السلمى، والذى كان موقفه منه كان واضحا حين أعلن أنه قاد مسيرة للعباسية تضامنا توكيدا لهذا الحق وتضامنا مع المتظاهرين رغم اختلافه معهم، وأكد مسئولية الدولة فى تأمين المتظاهرين، فى حين كان موقف موسى أن المظاهرات إنما هى دعوة للفوضى.
ثانى المعارك كان اقتصاديا، إذ ذهب موسى إلى أن مصر دولة فقيرة، وأن المطالب الفئوية تحاول حلب بقرة ليس فيها لبن، وهو موقف يجعل العلاج جلب الاستثمار، وتشجيعه بقمع الحركات العمالية التى تحاول مقاومة المنظومة الاقتصادية المهيمنة، أى فى التحليل الأخير إعادة تصنيع نظام مبارك، أما أبوالفتوح فقال إن مصر دولة (مفقرة)، وهو ما يعنى أن مشكتها لا فى قلة الموارد وإنما سوء التوزيع والإدارة، وكان واضحا دقيقا فى تفصيل مفردات برنامجه للتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وطرح بدائل تفصيلية تؤكد وفرة الموارد وتعالج مشكلة التوزيع غير العادل، ومعركة الفقر مقابل الإفقار، وقلة الموارد مقابل سوء توزيعها هى معركة رئيسة للثورة، ستساهم فى تشكيل النظام الاقتصادى المستقبلى.
ثالث المعارك التى خاضها أبوالفتوح تتعلق بالعدالة الاجتماعية، إذ حين تحدث موسى عن إلزامية التعليم الأساسى وتجنب التوكيد على مجانية التعليم الجامعى، وأكد أهمية ربط الخريج بـ(سوق العمل)، قدم أبوالفتوح تصوره للعدالة الاجتماعية والتنمية الإنسانية ركز فيه على محورى التعليم والصحة، فَفَصًّل فى تصوراته فيهما، وكيفية إعادة توجيه موارد الدولة لضمان جودة ومجانية وشمول الخدمة التعليمية والصحية المقدمة من الدولة، وربط ذلك بمكافحة الفقر، وإقرار حد أدنى للأجور والدخول، وربط ذلك بمشكلات اجتماعية أخرى كالأسر التى تعيلها نساء، وبقضايا لها علاقة ببنية النظام الاقتصادى كتوجه الدعم للأغنياء لا الفقراء من خلال دعم طاقة الفنادق والمصانع، ودعم الوقود الذى تستخدمه السيارات، فكان الحل الذى يقدمه مركبا هيكليا يعبر عن رؤية مغايرة لبنية الاقتصاد، فيما قدم موسى وعودا لا تستند إلى أى أرقام واستراتيجيات وانحيازات، ولا شك أن هناك مجالا أوسع للعدالة الاجتماعية مما فى برنامج أبوالفتوح، غير أن خوض هذه المعركة من مرشح رئيسى أمر فى غاية الأهمية والفائدة.
وكان الموقف من إسرائيل المعركة الرابعة، فرفض موسى مرتين اعتبارها عدوا، وأكد أنها دولة لنا معها خلافات، وهو ما يعنى استمرار نظام كامب ديفيد (أنا ممن يعتبرون هذه الاتفاقية ركيزة أساسية للنظام السياسى منذ توقيعها)، فى حين اعتبر أبو الفتوح إسرائيل عدوا، بسبب تهديدها للأمن القومى المصري، واحتلالها لأرض فلسطين، ثم طمأن الجمهور أنه لا يرغب فى خوض الحرب، فأشار لوجود مساحة اختيار واسعة بين الانبطاح والحرب، غير أنه لم يفصل على نحو كاف فى تلك المساحة.
وارتبطت بتلك المعركة أخرى تتعلق بالسيادة الوطنية، وفيها بدا تباين موقفى المرشحين كبيرا، فأكد أبو الفتوح أن مرتكزات السياسة الخارجية هى استقلال الإرادة الوطنية وتحقيق المصلحة الوطنية، ورفض الحديث عن استجابة لأى تأثيرات خارجية، بينما أكد عمرو موسى ــ فى إجابته عن نفس السؤال ــ أن سياسته الخارجية لن تغضب الولايات المتحدة، وهو ما يتسق مع موقفه العملى بمقابلة السيناتور جون كيرى خلال الأمتار الأخيرة من المعركة الانتخابية ــ وهى مرحلة الوعود الانتخابية ــ فى موقف يضرب الاستقلال الوطنى فى مقتل، ومعركة استقلال القرار السياسى وصدوره عن القاهرة لا واشنطن، هى معركة أساسية للثورة.
المعركة السادسة تتعلق بالمحاسبة والشفافية، فأبو الفتوح حمل أجهزة الدولة مسئولية تأمين المتظاهرين، وأكد ضرورة خضوعهم للتحقيق فى هذا التقصير ومعاقبة المقصرين، وأكد ضرورة محاسبة كل من تلوثت أيديهم بدماء وأموال المصريين لأنه لا أحد فوق القانون والمحاسبة، وأما الشفافية فقد أعلن عن ذمته المالية والصحية، فى حين حجبهما موسى، وقال إنه لن يعلن عنهما حتى يصل للقصر، وتجنب الحديث عن معاقبة القتلة إلا فى أضيق الحدود.
وكانت المعركة الأخيرة خيطا يسرى فى كل المعارك السابقة، وهى معركة التغيير مقابل الاستمرار، فأبو الفتوح أكد طوال المناظرة على ضرورة التغيير، فهو يريد قيادات شابة، ولا يريد الاعتماد على رجال النظام السابق، ويريد نقل الوطن إلى مرحلة جديدة تتخطى الاستقطاب على أساس الهوية لمناقشة القضايا المشار إليها فى الاستقلال الوطنى والسياسة الخارجية والاقتصاد والاجتماع، ويدافع عن كل التيارات من السلفية لليسار من أجل وطن لا يُقصى فيه أحد، أما موسى فقد أكد كثيرا على فكرة الاستمرارية من خلال الاعتماد على الخبرة والمعرفة، مستندا أنه جُرِب ونجح، وأنه فخور بالسياسة الخارجية فى السنوات التى كان فيها وزيرا للخارجية، وحاصل كلامه أن المشكلة الرئيسة كانت فى سنوات جمال مبارك، فغاية التغيير معه هو العودة للوراء لا التحرك للأمام: العودة لما قبل سياسات جمال مبارك، مع بقاء نظام الدولة التسلطى، واستمرار السياسات الاقتصادية التى أدت لفجوات الدخل والإفقار ولكن بصورة أقل حدة، واستمرار نظام كامب ديفيد، واستمرار تخويف المصريين من بعضهم البعض ومحاولة إقصائهم، وبناء السياسة على الخوف لا على الأمل، وهذه الثنائية الأخيرة هى ذاتها ثنائية الاستقرار مقابل التغيير، وخوض مرشح رئاسى له فرصة فى الفوز هذه المعركة أمر جيد.
أما المعارك التى لم يخضها أى المرشحين فأهمها معركة المجلس العسكرى من حيث مستقبل أفراده بعد انتقال السلطة، وهذه تجنبها المرشحان بالكلية، ومعركة المحاسبة، وموقع المؤسسة العسكرية فى الدولة والمؤسسات الاقتصادية للعسكر، وبعض هذه القضايا يستحق أن يصبح جزءا من الجدل الرئاسى، ولابد من الضغط على المرشحين بهذه الأسئلة، لا لتحديد الفائز فى الانتخابات فحسب، وإنما لاستغلال هذه المعركة الانتخابية فى فتح الملفات التى ينبغى أن تفتح.