لم يكتف الحكام المستبدون بدولنا العربية بفشلهم فى التصدى للمشروع الصهيونى بفرقتهم واهتمامهم بمصالحهم الضيقة على حساب المصالح العربية المشتركة، وإنما أجرموا فى حق أجيال بكاملها عندما ساهموا فى زرع اليأس والعجز فى نفوس قطاعات كبيرة من الجماهير وإيهامهم بأن مواجهة الإسرائيليين شىء مستحيل فى ظل الظروف الحالية. أعتقد أن بإمكاننا عمل الكثير لنصرة شعب فلسطين والدفاع عن حقوقنا المشروعة. فيما يلى مستويات ثلاثة لإنهاك الخصم ودفعه دفعا إلى الدفاع عن النفس بدلا من إدمان العرب تلقى اللكمات وابتلاع الإهانات ثم الاكتفاء بالتحدث عن السلام «كخيار استراتيجى» أو عن «قبول ما يقبله الفلسطينيون»!
●●●
المستوى الأول يتصل بضرورة إعادة تعريف المشكلة الفلسطينية وتسمية المسميات بأسمائها الحقيقية والعمل على نشرها وإذاعتها بكل لغات الأرض. لابد أن يؤكد الخطاب العربى (الرسمى والدبلوماسى والشعبى والإعلامى) أن هناك احتلالا عسكريا وهناك انتهاكات لحقوق الإنسان، وأن هذا الاحتلال وتلك الانتهاكات مناقضة للقانون الدولى ولكل المواثيق والأعراف الدولية، ومدانة من منظمات حقوق الإنسان بما فيها بعض المنظمات الإسرائيلية والغربية التى تتسم بقدر من الإنصاف. كما لابد أن يؤكد الخطاب العربى على أن هناك مقاومة للاحتلال (وليس عنفا أو إرهابا) كبّدت قوات الاحتلال ولاتزال الكثير من الخسائر وأجبرته على الخروج من جنوب لبنان، ومن غزة.
فهل بالإمكان تغيير الخطاب السياسى والإعلامى لحكوماتنا العربية، ولا سيما فى دول الربيع العربى، لتقدم الصراع العربى الصهيونى على حقيقته؟ وهل بإمكاننا تغيير مقرراتنا التعليمية فى المدارس والجامعات وإعادة تسمية الأسماء بأسمائها الحقيقية ووضع مشكلة فلسطين كقضية أمن قومى عربى على المستويين الرسمى والشعبى؟ ولماذا لا تستخدم وسائل إعلامنا صفات «العنصرية» و«الاستعمارية» و«التوسعية» عندما نتحدث عن ذلك الكيان؟ ولماذا لا ننتج البرامج والأفلام الوثائقية والمواد الدعائية لتوعية الشعوب بالمخاطر الكبرى التى تنتظرها المنطقة كلها؟ للأسف لا يوجد فى مصر الآن برنامج فضائى واحد أو صفحة فى صحيفة يومية واحدة تعالج الشأن الإسرائيلى والصراع فى المنطقة.
ولماذا لا نهتم بدحض الأساطير التى تأسست عليها الدولة الصهيونية؟ أليس بإمكاننا فضح أسطورة أرض الميعاد ونبوءة المسيح المنتظر ومقولة الشعب المختار؟ أليس من اليسير كشف الأكاذيب التى تروجها آلة الدعاية الصهيونية (وراح بعضنا للأسف يرددها بلا وعى) كأكذوبة أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب وأكذوبة أن الفلسطينيين قد باعوا أراضيهم؟ أليس من الضرورى كشف أكذوبة أن مشكلة فلسطين هى مشكلة الفرص الضائعة وكشف حقيقة بنية الدولة الصهيونية التى تتعارض أصلا مع السلام وقامت على أساس نفى الآخر واغتصاب أرضه؟
●●●
أما المستوى الثانى فيتعلق بالتصدى لكل المشروعات التى تستهدف تصفية الحقوق المشروعة لشعب فلسطين والهيمنة على المنطقة كلها. لماذا لا يتم الكشف، ولو إعلاميا ودبلوماسيا وشعبيا، عن مخططات الأمريكيين والإسرائيليين فى التطهير العرقى والعزل العنصرى وشرعنة الاستيطان فيما أُطلق عليه مؤخرا مبادلة الأراضى؟ ولماذا لا يواجه العرب قرارات الكونجرس الأمريكى الداعية إلى الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة الصهيونية أو إثارة ما صار يطلق عليه «قضية اللاجئين اليهود فى الدول العربية» وتقديم تعويضات مالية لأكثر من 850 ألف يهودى يُزعم أنهم هُجّروا من الدول العربية؟ ولماذا لا يفتح الحقوقيون العرب والجاليات العربية بالخارج ملف اختراق الدولة الصهيونية للقوانين الأمريكية باستخدامها السلاح، ليس فى الدفاع عن نفسها كما تنص هذه القوانين، وإنما فى حروب هجومية وفى هدم البيوت واستهداف المدنيين وسيارات الإسعاف؟
ولماذا لا نتحدث فى كل مكان عن حق العودة كحق مقدس نصت عليه قرارات الأمم المتحدة وتضمنه لنا جميع المواثيق الدولية؟ ولماذا لا نعقد المؤتمرات وورش العمل لدراسة المقترحات التى قدمها أساتذة محترمون، كالأستاذ سليمان أبوستة، وأثبتوا فيها أنه من الممكن إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم فى سياق حل شامل للقضية؟ ولماذا لا نقدم هذه المقترحات ضمن مبادرات تستهدف رمى الكرة فى الملعب الإسرائيلى؟
●●●
المستوى الثالث يهتم بالمقاومة كخيار وحيد وشرعى للشعب الفلسطينى ولجميع الشعوب العربية. إن مقاومة المحتلين لا تكون فقط بالقوة العسكرية وإنما بكل صور المقاومة، والهزيمة الحضارية والنفسية لمثل هذا النوع من الاستعمار قد تكون المقدمة الطبيعية والضرورية لهزيمته عسكريا لاحقا. فمتى وُجد احتلال واستعمار ظهرت المقاومة بكل صورها العنيفة وغير العنيفة. نعم من الصعوبة الآن الحديث عن تحريك الجيوش العربية لكن أليس من المنطقى تحريك العقول وتشغيلها فى كل ما يُنهك العدو اقتصاديا ودبلوماسيا وإعلاميا؟
أليس من الممكن تعزيز المقاومة القانونية والدبلوماسية عبر جميع المحافل الدولية لتعرية الكيان الصهيونى وفضح ممارساته العنصرية تجاه الشعب الفلسطينى فى الداخل وكشف معاناة الأسرى والمعتقلين وتهويد القدس والاعتداء على المساجد والكنائس واختراق الإسرائيليين لجميع الأعراف والمواثيق الدولية بل والقوانين الأمريكية؟ أليس من المهم كشف حقيقة «الديمقراطية» المزعومة داخل هذا الكيان العنصرى والتوجه لكافة المحافل الدولية ذات الصلة للمطالبة بمقاطعة هذا الكيان ومحاسبته ولو إعلاميا وشعبيا؟ إننا لا نحتاج هنا إلا إلى تقديم الدراسات والتقارير الغربية التى تكشف هذه الحقيقة والترويج لها إعلاميا ودبلوماسيا؟ ألم يحن الوقت لدعم إقامة حملات أهلية ووطنية ودولية للدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى والتى نصت عليها عشرات القرارات الدولية؟ لا يجب الاستهانة أبدا بهذه الأمور، فالصهاينة يروجون صورة كاذبة عن أنفسهم وعن دولتهم فى المجتمعات الغربية.
وفى ضوء المشكلات الأمنية الحالية فى سيناء، أليس من الضرورى الإقرار بفشل ما يسمى المسار السلمى؟ ألم يحن الوقت للحديث عن الثمن الباهظ (اقتصاديا وعسكريا وسياسيا) الذى دفعته مصر للصهاينة مقابل إخراجها من الصراع وعزل سيناء؟ وماذا عن الثمن النفسى لاتفاقية السلام بين السادات وبيجن الذى أنشأ أجيالا لا تعرف أبجديات الصراع؟ وألم يحن الوقت لفضح كم التنازلات التى قدمها العرب فى مسار أوسلو والذى لم يثمر شيئا اللهم إلا أنه حجب الأعين عن آلة الاستيطان الجهنمية التى تضاعفت خلال هذا المسار فجعلت من المستحيل الحديث عن دولة فلسطينية بحسب منطقهم؟ ولماذا لا تتجه المقاومة إلى تعرية حقيقة الدعم الأمريكى أمام المواطن الأمريكى؟ لابد أن يعرف كل دافع للضرائب هناك أن أمريكا تقدم لإسرائيل ما قيمته 10 ملايين دولار يوميا كما كتب كارتر ذات يوم.
ولماذا لا يتحدث العرب عن «الحل الوسط التاريخى» الحقيقى الذى يُوقف اختراق الإسرائيليين للقانون الدولى والمواثيق الدولية، ويعيد الحقوق الشرعية لأصحابها؟ أى الحل الذى ينزع عن الكيان الصهيونى صفتى «العنصرية»، و«التوسعية»، ويشمل إلغاء كافة القوانين العنصرية والإجراءات التى تُميز ضد غير اليهود، والاعتراف بالحقوق الشرعية للفلسطينيين بما فيها انهاء الاحتلال وحق العودة ودفع تعويضات عن كل الانتهاكات التى ارتكبت. ولماذا لا نتحدث عن أن هناك حلولا مشابهة نجحت فى أماكن أخرى حال ما حدث فى جنوب افريقيا؟ ولماذا لا نتواصل مع جميع الشعوب الحرة والمنظمات الدولية المحايدة فى هذا المجال؟
●●●
إن الثورات العربية ودخول الشعوب فى معادلة السياسة العربية لابد أن تنعكس على سياسات حكوماتنا ولابد أن تمتد إلى الصراع العربى الصهيونى على جميع المستويات. علينا امتلاك إرادتنا السياسية والتمسك بمصالحنا العربية العليا ووضع كل الإمكانات المادية والبشرية فى نضالنا الممتد من أجل التحرير والحصول على حقوقنا المشروعة.
أستاذ مساعد فى العلوم السياسية بجامعة الاسكندرية