منذ عقود وبشكل تدريجى ومدروس يتم الإضرار بالمصالح الإستراتيجية لمصر عبر اعتماد سياسات محددة والترويج لأوهام تضرب جوهر الأمن القومى. الأمر هنا يتعلق بتصفية القضية الفلسطينية وحصر اهتمام مصر بمشكلاتها الداخلية على اعتبار أن الأمن القومى لا يتحقق بالضرورة عبر دعم الفلسطينيين. فيما يلى بعض التوضيح الذى لا تسمعه الأجيال الحالية.
•••
بدأ الأمر بتحييد العرب من خلال تحييد مصر أولا عبر اتفاقية السلام المنفردة التى أخرجت مصر من حلبة الصراع لكنها لم تحقق الأهداف التى بشر بها السادات، وهى التفرغ لبناء مصر وتحقيق التنمية المنشودة. فسيناء ظلت بموجب الاتفاقية منزوعة السلاح والتنمية معا، ومصر كلها لم تشهد أى برامج تنمية حقيقية. وأدت سياسة الانفتاح غير المدروس إلى تعميق مشكلات الاقتصاد وزيادة الهوة بين الفقراء والأغنياء. هذا ناهيك عن استمرار نمط الحكم التسلطى بمنظوماته الأمنية والإقصائية والإفسادية. والأهم من كل هذا أن خروج مصر فتح الباب أمام اعتراف مزيد من الدول بدولة الاحتلال وتعزيز علاقتها بالكثير من الدول بما فى ذلك دول كانت حليفة لنا كالصين والهند والكثير من الدول الأفريقية.
ولأكثر من عقد ونصف (منذ كامب ديفيد1977 وحتى بداية أوسلو 1993) أخرجت اتفاقية السلام مصر من المواجهة وفتحت الباب أمام دولة الاحتلال لهدم ثوابت الأمن القومى العربى وتغيير موازين القوة بالمنطقة. لقد تفرغ الإسرائيليون تماما لتصفية المقاومة وضرب منظمة التحرير واحتلال لبنان وتدمير المفاعل العراقى واختراق النظام العربى. وأكمل حلفاؤهم الأمريكيون والأوروبيون المهمة بدعم الحكومات العربية المستبدة ووضع فيتو على ظهور حكومات منتخبة ومسئولة.
وبعد حرب الخليج الثانية وانقسام العرب تم تحييد المنظومة القانونية الدولية بشأن الصراع برغم أنها لم تكن منصفة بالأساس، فقد سلمت اتفاقيات أوسلو القضية برمتها للولايات المتحدة ومن ورائها اللوبى الصهيونى حليف الحكومات الإسرائيلية المختلفة. وهنا تحولت مصر إلى مجرد وسيط للقاءات الفلسطينية الإسرائيلية التى كان هدفها خداع الفلسطينيين بينما تتم مضاعفة أعداد المستوطنين وتهويد ما تبقى من فلسطين. وفى ظل صمت نظام مبارك، طلب الأمريكيون والإسرائيليون من الفلسطينيين التنازل عن كل شىء تقريبا (تقرير المصير والمقاومة والقدس وحقوق اللاجئين والعودة والتعويضات) مقابل لا شىء تقريبا (حكم ذاتى محدود أو وعد بكيان يسمى دولة منزوعة السيادة والسلاح)، لتتحول القضية من قضية احتلال وحقوق مسلوبة إلى أرض متنازع عليها.
ثم تحولت مصر بعد أحداث سبتمبر2001 إلى مجرد قناة اتصال أمنية، وأحكمت اتفاقية فيلاديلفيا المصرية ــ الإسرائيلية (2005) وما عرف بالتنسيق الأمنى حصار غزة بحظرها دخول السلع والأشخاص. وتفاقمت تداعيات هذا الاتفاق بعد سيطرة حماس على غزة.
•••
كانت ثورة 25 يناير فرصة تاريخية للشروع فى تعديل ميزان القوة المختل، إذ كان بالإمكان استخدام ورقة الضغوط الشعبية لو اقتنعت المؤسسات الأمنية بهذا وتخلت عن سياساتها القديمة، أو ظهرت قوى سياسية مسئولية تضغط لتغيير هذه السياسات. لكن هذا لم يحدث، بل وانكمش ملف فلسطين ليكون ملف غزة فقط، والذى ظل ملفا أمنيا ولم يُسلم أبدا للمؤسسات المدنية المنتخبة. ومنذ أيام شاهدنا معلقا إسرائيليا يقول إن حصار الإسرائيليين على غزة لا يمنع المساعدات الإنسانية على عكس سياسة الحكومة المصرية الحالية. ربما هناك مبالغة بشأن السياسة الإسرائيلية، لكن بالنسبة لمصر نعرف جيدا أن المعبر مغلق كليا منذ أكثر من شهر.
وظلت مقولات «الوطن البديل» تتردد منذ عهد مبارك دون أن نجد طرفا واحدا، مصريا أو فلسطينيا، يؤكدها. بدأت القصة عندما روجت لها دراسة إسرائيلية، ثم استخدمت لاحقا لتبرير مواقف مبارك المخزية من العدوان على غزة. ثم وظفت مؤخرا بعد إضافة الإخوان الذين أرادوا، حسب الرواية، بيع جزء من سيناء إلى الفلسطينيين. وما نعرفه حقيقة هو أنه عندما عبر الآلاف الحدود خلال عدوان 2008 ــ 2009 لم يبق أحد منهم بمصر، فقد جاءوا لشراء مستلزمات الحياة وعادوا لوطنهم المحتل. وفى السابق ظل أهل غزة تحت حكم مصر (1948ــ 1967) ولم يتخل أحد منهم عن وطنه، ومن جاء إلى مصر جاء إليها مضطرا، لاجئا ومطرودا بعد هزيمة 1967.
لقد ازداد الأمر سوءا فى الشهور الأخيرة وظهرت مواقف لم نشاهدها حتى أيام مبارك، فبدون أدلة قاطعة صارت حماس، فى الرواية الرسمية، متورطة فى عمليات العنف بسيناء، الأمر الذى تطلب غلق مئات الأنفاق (لكن دون فتح معبر رفح بشكل دائم وشرعي)، بجانب اعتبار حماس منظمة إرهابية ومحاكمة الإخوان على تخابرهم معها. وقد واكب هذا إطلاق يد بعض الصحفيين لتشويه المقاومة بشكل مخجل، ووصل الأمر بالبعض إلى تشجيع الإسرائيليين على ضرب غزة!
وفى الواقع تعرضت مصر منذ عقود لعمليات تضليل وغسيل مخ منظمة استهدفت زرع أوهام تضر بالأمن القومى المصرى. وقد حققت هذه العلميات بعض النجاح للأسف، وانتهى الأمر إلى أنه لا يوجد فى مصر الآن مركز بحثى واحد معنى بالقضية الفلسطينية، ولا صفحات متخصصة عنها فى صحفنا، ولا برنامج واحد بشأنها بالفضائيات المصرية، ولا يوجد مقررات عن القضية الفلسطينية بالمراحل التعليمية المختلفة ولا حتى بأقسام العلوم السياسية بمعظم الجامعات. أما الأفلام والمسلسلات المصرية التى تتناول المشكلة فقد انقرضت تقريبا، فيما عدا لقطات تضامن سطحية.
•••
لا يمكن لدولة أن تفقد بوصلتها التى تحدد لها أعداءها الإستراتيجيين، ولا يمكن لها الارتكان إلى تقديرات طارئة أو تحالفات متغيرة فى هذا الشأن. لقد غابت العقول الواعية المدبرة لسياستنا تجاه دولة الاحتلال فى مؤسساتنا الرسمية والبحثية والإعلامية فغابت معالم أمن مصر القومى وصار البعض لا يعرف من هو عدونا الإستراتيجى. إن كل الأرض من الناقورة إلى أم الرشراس هى أرض محتلة، ودولة الاحتلال دولة استعمارية وفصل عنصرى، تنتهك كل الأعراف والقوانين الدولية وتزور التاريخ والجغرافيا وتزرع الحقد والكراهية تجاه مصر وكل العرب فى مناهجها التعليمية. إن مواجهة هذه الحالة الاستعمارية بكل الطرق الممكنة وفى كافة المجالات ودعم كل مقاومة فلسطينية تقاوم الاحتلال واجب وطنى مصرى لا تحتمه فقط روابط الدم والنسب والعروبة والإسلام وإنما تفرضه أبجديات الأمن القومى المصرى.