ديمقراطية ليست فى حدود الحدود - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:38 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ديمقراطية ليست فى حدود الحدود

نشر فى : الإثنين 15 يوليه 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 15 يوليه 2013 - 8:00 ص

اختارت مجلة التايم الأمريكية الشعب المصرى ليكون موضوع الغلاف فى عددها الأخير. وقسمت المجلة صورة هائلة للحشود التى خرجت للمطالبة بعزل الرئيس مرسى إلى قسمين: الأول تحت عنوان المحتجون الأفضل فى العالم، والثانى الذى صبغته بلون أحمر قانى تحت عنوان الأسوأ ديمقراطيا. اعتبرت المجلة أن «الشارع يحكم» بحسب عنوان موضوعها الرئيسى. فقد أزاح الديكتاتور مبارك ثم قصر عمر الحكم العسكرى ثم عادت حشوده «فأقنع الجيش بإزاحة الرئيس مرسى بعد عام واحد له فى السلطة»، وأن ذلك مثال سيئ للديمقراطية.

 

فى الوقت نفسه، أنتجت الثورة المصرية فى محطتها تلك فى ٣٠ يونيو نقاشا محليا عارما حول معنى الديمقراطية. المعتصمون فى رابعة العدوية، يرفعون لواء الصندوق الانتخابى كمصدر للشرعية السياسية، مصنفين ماحدث على أنه محض إنقلاب عسكرى على إرادة الناخبين، لكن هؤلاء ينسون أنهم جاءوا هم وشرعيتهم الدستورية للحكم بفضل فعل مماثل تماما فى يناير ٢٠١١ ثم على مدى عام ونصف من حكم العسكر، كما رصدت التايم. ويتناسون مع ذلك العقد والعهد الذين فضل على أساسهما المنتخبون للرئيس مرسى اختياره (أكثر من نصفهم من عاصرى الليمون)، والذين  تجاهلهما الرئيس وحزبه وحكومته على مدى عام كامل. وفى مواجهة رابعة، رؤية تتبناها المؤسسة العسكرية وحلفاؤها السياسيون، الذين يصيغون ملامح مرحلة إنتقالية جديدة، تقول إن الشارع قد أمر بالتغيير ولم يكن بالوسع تجاهل هذا. لكن هؤلاء أيضا يديرون ويتفاوضون ويتحركون فيما بعد ٣ يوليو فى عتمة كاملة وتهميش هائل لهذا الشارع، لدرجة أن حركة تمرد نفسها التى جمعت توقيعات الملايين من اجل انتخابات رئاسية مبكرة، تعترض الآن على المسار الذى تتأخر فيه الانتخابات الرئاسية لمرحلته الأخيرة.

 

●●●

 

ولا يجىء هذا النقاش حول معنى الديمقراطية فى لحظة عادية أبدا. فهو فى مصر يأتى عقب ثورة أطاحت بحكم مبارك، ومازالت تحارب استبداد نظامه المستمر معنا. كما أنه يتزامن مع أزمة عالمية فى الديمقراطية بعد أن وضعت الأزمة الاقتصادية العالمية فى ٢٠٠٨  المسمار الأخير فى نعش نظريات نهاية التاريخ بعد أقل من ٢٠ عاما فقط من ظهورها. فلم تترك الأزمة، التى بدأت أعراضها مالية، آثارها الكاشفة للتشوهات والعيوب الهيكلية  لنموذج هيمنة السوق على الاقتصاد فقط، بل فضحت يوما بعد يوم، النموذج السياسى للديمقراطية الرأسمالية المتوائم معه.

 

 

 

ديمقراطية «عد الأصابع»

 

أية ديمقراطية إذا نتحدث عنها هنا؟ يقول المفكر الكبير د. عبدالوهاب المسيرى المثال فى مقال له فى أكتوبر ٢٠٠٤، تحت عنوان «الديمقراطية والقيمة» إنه «عادة ما تعرف الديمقراطية على أنها نظام سياسى يوفر فرصة المشاركة لكل أعضاء المجتمع الذين لهم حق التصويت فى اتخاذ القرارات التى تؤثر فى حياتهم الفردية والجماعية على حد سواء فى أى من المجالات الاجتماعية أو السياسية. كما تعرّف الديمقراطية بأنها نسق سياسى قائم على مبادئ ممارسة الحكم من خلال موافقة المحكومين وتقبلهم له، على اعتبار أن الحكومة تستمد شرعيتها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من إرادة غالبية أعضاء المجتمع المحلى أو المجتمع بأكمله. ويقتضى نموذج الديمقراطية النيابية هذا عددا من الشروط، مثل الانتخابات الحرة وسرية التصويت وتكافؤ فرص المرشحين، فضلا عن المساواة أمام القانون وحرية التعبير والنشر والاجتماع». ويعود د.المسيرى سريعا ليفرق بين ما يسميه النموذج الفعال او الذى ينفذ بالفعل، والذى يكتفى من الديمقراطية بإجراءاتها التى تجيد اللعب بها نخبة قليلة من تحالف اجتماعى يجمع سلطة الاقتصاد والاعلام والقمع، وبين النموذج المثال. 

 

وحتى النموذج المثال فهو لا يقوم على مبدأ مجرد عابر للتاريخ. فالديمقراطية الرأسمالية بأحزابها وإجراءاتها وصندوقها، وهى إنجازات فى تاريخ البشرية، جاءت فى الأغلب بحراك شعبى انتزعها انتزاعا فى نضال قرون، هى منتج تاريخى، قابل للتغير والتحسين بل والتجاوز لما هو أسمى.

 

●●●

 

يصف محرر الشئون الأوربية فى بى بى سى جافن هيويت فى مقال له فى نوفمبر ٢٠١١ الوضع فى أوروبا قائلا: «الآن فى القارة يتم تنحية الديمقراطية كقطعة قماش غير مرغوب فيها»، بينما تتعارض برامج وسياسات القادة والأحزاب المنتخبين مع مصالح وتوجهات المحكومين، لحساب قلة من نخبة السلطة والمال، التى تدمر معها الاقتصاد ومعه حياة الملايين. وقد كشفت هذه الأزمة بوضوح لا لبس فيه حدود الديمقراطية الرأسمالية التى تحجم إرادة الناس إذا تعارضت مع مصالح الطبقة المسيطرة. وقد دعا هذا الناس لابتداع أشكال ديمقراطية قاعدية فى الإنتاج وفى الإدارة المحلية بقدر ما استطاعوا انتزاعه فى تجارب ثورية وجماهيرية فى الاكوادور والارجنتين وبوليفيا وغيرها. 

 

لقد دعت أزمة الديمقراطية الطاحنة تلك الأمم المتحدة إلى طرح مفاهيم كالديمقراطية التشاركية التى تقوم على خلق عملية مؤسسية يكون لدى كل القوى والشرائح الاجتماعية دور ومسئولية فى اتخاذ القرارات التى تؤثر على حياتهم وليس فقط ترك الأمر فى أيدى المنتخبين فترة الانتخاب حتى لو كان هؤلاء يدمرون قيم الديمقراطية والمساواة ذاتها.

 

●●●

 

فى الحالة المصرية، جاءت الانتخابات بدماء من ماتوا فى الأربعين والتحرير والعباسية ومحمد محمود وبورسعيد وغيرها، ثم أنتجت رئيسا وحكومة، تدينهم هم، من جاءوا بها، وتنحى مطالبهم فى إعادة توزيع الثروة وفى العدالة الاجتماعية وفى وقف تهميش واضطهاد المصريين من أقباط ونوبيين وسيناويين، بل وتدشن القوانين لتمنعهم من آخر أسلحتهم للدفاع عما تبقى من عيشهم بالإضراب والاعتصام، وتصف احتجاجاتهم اليائسة بأنها تعدٍ على «هيبة الدولة». نموذج ديمقراطية رأسمالية بعباءة تمثيلية لا يمس مراكز احتكار السلطة والرزق والمعايش والسيطرة. هذه هى بالضبط هى ديمقراطية «عد الأصابع» كما يسميها المسيرى، وهى ديمقراطية مفرغة من القيمة (التناقض هنا هائل مع من يدعى مرجعية الدين)، إذ أنها تنتهى بعيدا عن الغاية من سيادة الشعب والحرية إلى تقديس الإجراء فى حد ذاته والحفاظ على النظام الجديد. وهو ما يتشابه مع أزمة الديمقراطية الرأسمالية  فى أوروبا وأمريكا. إجراءات الديمقراطية هى شرط ضرورى لها لكنها ليست كافية لتحقيقها.

 

لقد فتحت الثورة المصرية بابا واسعا أمام تلك القوى التى تبحث عن ديمقراطية القيم حتى فى أوروبا وأمريكا. لقد ألهم نضال المصريين فى الشارع، والقوة التى أسسوها خارج الأنماط التقليدية للسلطة، من يقاتلون الآن من أجل عيشهم فى أثينا وشيكاجو ودبلن ولندن وريو دى جانيرو. التايم لا تحارب الانقلاب العسكرى ومخاطره، وترياقهما الوحيد فى الشارع الذى يحكم أصلا وصار مرجع الكل الآن، وإنما تفرض علينا نهاية تاريخ فوكوياما عند نموذج الديمقراطية الرأسمالية عسى أن توقف العدوى المصرية من الانتشار إلى مهد هذا النموذج المأزوم فى أوروبا وأمريكا. إن الثورة المصرية، والشارع الذى يفرض إرادته فى القاهرة والإسكندرية والفيوم والسويس وفى مجمع الألومنيوم بنجع حمادى وفى سيراميكا كليوباترا وفى الشرقية للدخان، يفتحان باب التاريخ أمام صناعة ديمقراطية جديدة قائمة على التحرر من الاستغلال الاقتصادى والقمع السياسى والهيمنة الايديولوجية.  ووراء الباب يتمترس أصحاب المصلحة فى استمرار الوضع القائم، من شركات عالمية كبرى وحكومات وأحلاف عسكرية ومؤسسات مالية دولية وقوى إقليمية وإخوان ورجال أعمال وعسكر وسياسيى سراديب الحكم وعرَّابى الأنظمة المنقضية، بلا جدوى محاولين إغلاقه. ويالها من مهمة بائسة محكوم عليها بالفشل.

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات