فى حياة كل شخص أدوار عديدة، تتغير مع تغير الساعات والأيام والسنوات. قد يتزامن دوران منها فيلعبهما الشخص فى آن واحد، أو قد يلعب دورا فى الصباح وآخر فى المساء. المهنة دور، الوضع الأسرى دور ثان، فى المجتمع يدخل دور ثالث إلى الصورة، فى مدرسة الأولاد دور رابع، فى الشارع يظهر وجه آخر، هو ليس نفسه الذى يراه الأقرباء. هى وجوه مختلفة بل قد تكون شخصيات مختلفة تدخل يلبسها كل إنسان بحسب الظروف والمواقف، نلبس وجها عند لقاء الأهل وآخر عند لقاء زملاء العمل، بينما نتحول إلى شخص مختلف مع أولادنا.
***
محظوظ هو من تتسق أدواره فلا يتغير كثيرا تماشيا مع محيطه، فلا يشعر أن ثمة ضوءا كضوء غرفة الاستجواب موجها إليه يراقب ردود أفعاله ويرصد تغير لونه وامتقاع وجهه وتوقف الدم فى عروقه مع تأثره بمن حوله من ناس وظروف. أما بالنسبة لبقية البشر من الناس العاديين الذين أنتمى لفئتهم، فنحن نجد نفسنا كمن تسلم عدة كراسات تحتوى على أدوار لكل منها عنوان واضح: الأم تقول كذا، الموظفة تقول كذا، الابنة دورها كذا، الجارة، الصديقة، وما إلى ذلك من أشخاص مختلفين كلهم أنا وأنت وهى وهو.
***
أتمتع كثيرا بمراقبة نفسى والآخرين فى أدوارنا المختلفة. أحب أن أرى التحول الذى يطرأ على الملامح، التموج فى طبقة الصوت، النبرة حين تأخذ منحنى غير متوقع، العينان حين تلمعان فجأة، اليدان عندما تتوقفان عن الحركة. أحب أن أربط الأدوار بخيط شفاف فأقلب بينها كأنها صفحات من كتاب واحد هو حياتى أو حياة شخص أعرفه، فأرانى وأراه من زوايا متعددة. أنا مقتنعة أن لا أحد منا ثنائى الأبعاد بل كلنا متعددى الأبعاد كتلك المجسمات التى تباع فى محلات الألعاب وتأخذ وقتا للتركيب، فيظهر فيها بناء معقد فيه زوايا وأعمدة وألوان تتغير مع تحرك الشمس من فوقه.
***
الآن وقد أصبحت أما لثلاثة أطفال، ما يشدنى هو مراقبة تصرفاتهم وأفعالهم قبل أن يضفوا عليها فلاتر تغير وقعها على وعلى من يتعامل معهم، أى قبل أن تتدخل الاعتبارات الثقافية والدينية والاجتماعية وحتى اللغوية فى نظرتهم إلى العالم والناس. لا مصفاة تحدد ما يستطيعون قوله أو عمله، ولا إدراك لديهم بعد بما يجب أن يقال وما يجب عليهم ألا يصرحوا به. هم لم يدخلوا بعد مفهوم الـ«بصير وما بصير» كما تسميه صديقة أوروبية عاشت طويلا فى البلاد العربية إلى أذهانهم. وما تعنيه الصديقة هو لجوؤنا فى كثير من الأحيان إلى التفسير السريع، «ما بصير» أى لا يجوز فى اللهجة السورية. وطبعا الجواب الحاضر أبدا عند كل الأطفال هو لماذا لا يجوز؟ يتبع السؤال الجواب الحاضر هو الآخر عند معظم الأهل: عيب، حرام، غير لائق.
***
هذه ليست دعوة للتمرد على كل الأعراف والاعتبارات، هى فقط دعوة للمقارنة، عند أشخاص نملك ترف مراقبتهم على مدى سنوات، بين المادة الخام التى يكونوها قبل تزويدهم بالفلاتر أو المصفاة وبعدها، ومحاولة فهم تقبلنا لأمور يراها المجتمع والدين والثقافة السائدة على أنها صحيحة، أو محاولة تفكيكها لفهم المضر والسيئ واللاأخلاقى منها، مع مراعاة أن هذه التعريفات هى نفسها مطاطة وسهلة التحوير.
تعريف الأسرة مثلا، تعريف الحرية الفردية، تعريف الاحترام، تعريف الأدب، هى كلها مفاهيم تتغير مع تغير البيئة والمجتمع والبلد والطبقة الاجتماعية والدين، وأشياء أخرى كثيرة. أفكر فى هذه المفاهيم كثيرا مع الحديث المتنامى دوليا عن الهجرة ومشاكل الاندماج ومحاسن (أو مساوئ بالنسبة للبعض) المجتمعات المتنوعة. أنا عن نفسى مدافعة عن التنوع وعن الحق فى الاختلاف، ومدافعة عن ضرورة أن تكون مرجعية الفرد القانونية هو الحق والحقوق عموما كما عرفتها المنظومة الدولية لحقوق الإنسان. أنا أؤمن بالتساوى التام أمام قانون يقى أى شخص من التمييز.
***
أما بعد، فنحن نؤدى أدوارنا المختلفة مستندين على الكثير مما نرثه من المجتمع من حولنا، فهناك صورا نمطية للأم أو الزوجة أو الصديقة أو الموظف أو المدير وغيرهم. أنا عن نفسى أفضل أن يتم حياكة الأدوار جميعها على أساس أن تراعى احترام الفرد لا لشىء سوى أنه إنسان، وأن نحاول الابتعاد عن الصور النمطية بقدر المستطاع، وأن نتخلص من بعض أجزاء المصفاة الخانقة التى تكبل المشاعر وتصعب علينا التعبير عما فى نفسنا. أفضل الصديقة التى تصارحنى بموقف جرحها والأم التى تردد لى أنها تحبنى حتى حين أخطئ من وجهة نظرها. أفضل الزميل الذى يحاول حل الاختلاف. من الصعب جدا الابتعاد عن الأعراف، وقد يكون فيما هو متعارف عليه سهولة إذ يسهل توقعه، لكنى وفى مراقبتى الدائمة لنفسى ولمن حولى أحاول دائما أن أتخيل الأدوار دون مصفاة، هل كنا سنتغير كثيرا، بعيدا عن «بصير وما بصير»؟