«آخيل جريحا.. إرث جمال عبدالناصر».. الحلقة الثانية - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 4:49 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«آخيل جريحا.. إرث جمال عبدالناصر».. الحلقة الثانية

نشر فى : الأحد 15 سبتمبر 2019 - 9:45 م | آخر تحديث : الأحد 15 سبتمبر 2019 - 9:45 م

من أين جاء الضباط الأحرار.. ولماذا كان الصدام مع الإخوان محتمًا؟
رغم مثالب معاهدة (١٩٣٦) فإنها أفضت إلى دخول جيل جديد من أبناء الطبقة الوسطى والمزارعين وصغار الموظفين الكلية الحربية كان من بينهم جمال عبدالناصر ورفاقه

بتوصيف الأستاذ «هيكل» لطبيعة العلاقة التى جمعت قائد «يوليو» مع الجماعة فإنها «كانت فوق السطح ولم تصل عميقًا»
حسب الشهادات المنشورة لـ«الضباط الأحرار».. فإن غالبيتهم أدخلوا التنظيم عبر جمال عبدالناصر الذى أحكم قبضته على كل الخيوط

لم تكن لدى «عبدالناصر» ورفاقه خطة للإمساك بالسلطة.. لكنها سقطت كاملة بسهولة لم يتوقعوها


ارتفعت نداءات التحرر الوطنى وحق تقرير المصير والعدل الاجتماعى فى أرجاء العالم.. وكان ذلك ملهمًا للحركة الوطنية المصرية للبحث عن طريق جديد وتبنى أفكار جديدة

لم يكن «الضباط الأحرار» من قماشة سياسية واحدة، فقد جاءوا من مشارب فكرية واجتماعية مختلفة.
بالتكوين السياسى تباينت الانتماءات بين ثلاثة توجهات رئيسية:
مستقلون لا علاقة لهم بأى حزب أو تنظيم، ولا تعرف عنهم أية انتماءات فكرية أو تنظيمية باستثناء التوجه الوطنى العام والغضب على مستويات الأداء السياسى والعسكرى وفساد النخب الحاكمة، ويساريون منتمون إلى «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى ــ حدتو»، وأعضاء بجماعة «الإخوان المسلمين»، أو لهم اتصالات بها، أو مروا عليها.
ما موقع «عبدالناصر» من الجماعة قبل (٢٣) «يوليو» والصدام معها؟
حسب شهادة لـ«خالد محيى الدين» سجلها «أحمد حمروش» فى كتابه «شهود يوليو»، فقد انضم إلى الجهاز الخاص برئاسة «عبدالرحمن السندى» مع «جمال عبدالناصر» و«كمال الدين حسين».
غير أن شهادة «كمال الدين حسين»، التى ضمها الكتاب نفسه، لم تُشر للجهاز الخاص أو «السندى»، وأكدت انضمامه للجماعة مع «جمال عبدالناصر» و«عبدالمنعم عبدالرءوف»، دون أن تذكر اسم «خالد محيى الدين».
ذلك التضارب فى المعلومات الأساسية «من انضم مع من؟» ألقى ظلالًا كثيفة على الحقيقة.
فى شهادة لـ«فريد عبدالخالق»، أحد مؤسسى الجماعة وسكرتير مرشدها الأول «حسن البنا»، فإن «عبدالناصر» درب متطوعيها على محاربة الاحتلال دون أن يؤكد عضويته العاملة.
فى شهادة للباحث الإسلامى الراحل «حسام تمام»، فقد ربطت صداقة وثيقة «عبدالناصر» و«حسن العشماوى» عضو مكتب الإرشاد.
عندما عاد الأخير إلى مصر فى سبعينيات القرن الماضى بصفقة بين الجماعة والرئيس الجديد «أنور السادات» سمع نجله متأثرًا بكراهية «عبدالناصر» يشتمه بأقذع الألفاظ فصفعه قائلًا: «لا تشتم عمك مرة أخرى».
فى ظلال القصة شيء إنسانى عميق بين رجلين تصادمت خياراتهما وافترقت طرقهما، وفيما يبدو أن «عبدالناصر» لحظة الصدام لعب دورًا غير معلن فى حماية صديقه القديم.
ليس بوسع أحد أن يجرد البشر من مشاعرهم الإنسانية، حتى فى لحظات الصدام المروع.
غير أن ذلك لا يجيب عن السؤال اللغز: إلى أى حد ارتبط «عبدالناصر» بالجماعة؟
بشهادة لـ«سامى شرف» ــ مدير مكتب «جمال عبدالناصر» ــ تعبيرًا عن اعتقاد كل من اقترب من رجل «يوليو» فى مرحلة مبكرة من تجربته، فإنه لم يكن إخوانيًا ولو للحظة واحدة، وإن كان قد اقترب من بعض قيادات الجماعة.
فى شهادة غير منشورة، حصلت على مسودتها، يؤكد اللواء «عبدالرحمن فريد»، مدير المباحث الجنائية العسكرية فى أيام الثورة الأولى، الذى ضم المشير فيما بعد «عبدالحليم أبو غزالة» إلى عضوية تنظيم «الضباط الأحرار»، أن «عبدالناصر» «لم يكن شيوعيًا ولا إخوانيًا».
ويروى أن الجماعة حاولت مبكرًا الانقلاب العسكرى على نظام «يوليو»، لكنها أحبطت وجرى القبض على «عبدالمنعم عبدالرءوف» وآخرين.
«هرّبه عبدالناصر، لأنه لا يستطيع أن ينسى دوره فى دعم الثورة».
بشهادة لـ«محمد حسنين هيكل»، الذى تسنى له استقصاء الإجابة من عبدالناصر نفسه، فقد اقترب إلى حدود بعيدة من الجماعة فى فترة من عمره، ولكن فى إطار العمل الفدائى.. واقترب أكثر من «عبدالمنعم عبدالرءوف»، وهو من قادة الجهاز السرى.
فى هذه المرحلة رأى «السندى» وبعض الذين كانوا فى الجهاز الخاص.
بتوصيف الأستاذ «هيكل» لطبيعة العلاقة التى جمعت قائد «يوليو» مع الجماعة فإنها «كانت فوق السطح ولم تصل عميقًا» ـ كما ورد فى كتاب «عبدالناصر والمثقفون» لـ«يوسف القعيد».
بخط يد الضابط الشاب فى حرب فلسطين «جمال عبدالناصر» كانت أولى يومياته على دفتر شخصى غامضة وشفرتها يصعب فكها.
وقد كانت تلك اليوميات الخطية أقرب إلى مرآة لشخصية الرجل الذى سوف يقدر له بعد أربع سنوات أن يحكم مصر ويغير معادلات الإقليم، وقد احتفظ بها «محمد حسنين هيكل» لنحو خمسة وخمسين سنة قبل أن أحصل منه على نسخة كاملة نشرتها عام (2009).
فى اليومية الأولى سجل أنه عرف فور وصوله إلى غزة أن «محمود بك لبيب» موجود فى معسكر المتطوعين.
ذهب إلى المعسكر ليلتقيه، لم يجده، وفى الطريق قابله مع الشيخ «محمد فرغلى»، حيث اتفقوا أن يصلوا الجمعة سويًا باليوم التالى (٤) يونيو (1948).
رغم غموض طبيعة العلاقة، التى لم يُشر إليها من قريب أو بعيد، لا بالتصريح ولا بالإيحاء، فإن القصة المقتضبة بكلماتها وحروفها تكتسب قيمتها التاريخية من أن الرجلين من أبرز قيادات جماعة «الإخوان المسلمين».
الأول ـ أبرز قادتها العسكريين وأكثرهم نفوذًا وتأثيرًا داخل الجماعة.
والثانى ـ عضو مكتب الإرشاد وخازن سلاحها.
قبل الموعد المتفق عليه للحديث ـ ربما ـ عن أحوال المتطوعين وأوضاع القتال جرى تكليف «عبدالناصر» بمهمة استكشاف فى «دير سنيد» و«المجدل» و«أسدود»، حيث قابل فى المحطة الأخيرة «عبدالحكيم عامر».
حتى نهاية اليوميات مطلع (١٩٤٩) لم يأتِ على ذكر «محمود لبيب» والشيخ «فرغلى».
يسهل استنتاج أن هناك صلة سابقة مع الضابط المتقاعد «محمود لبيب»، وبدرجة أقل مع الشيخ «محمد فرغلى».
«لبيب» مات قبل ثورة يوليو.. و«فرغلى» من الذين ناهضوا التعاون مع «يوليو»، أو حل الجهاز الخاص، واتهم بالضلوع فى محاولة اغتيال «عبدالناصر» عام (١٩٥٤) وحكم عليه بالإعدام.
وقد كان الصدام مروعًا.
وبشهادة لـ«عبدالناصر» مسجلة بصوته فى المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية مطلع ستينيات القرن الماضى: «.. انضممت إلى حزب مصر الفتاة لم أسترح فتركته، وانضممت إلى الوفد وكنت من أكثر الناس اتصالًا به، وأيضًا لم أسترح فاتصلت بالإخوان المسلمين، وكذلك لم أطمئن واتصلت بالشيوعيين واتصلت بكل الهيئات العاملة فى هذا البلد، كما اتصلت بالأحرار الدستوريين والسعديين. كنت أبحث عن الحقيقة كشاب يريد أن يكافح من أجل بلده، ولكننى كنت تائهًا وكنت أعتقد أنه يمكن أن تكون هناك فائدة، وأخيرًا لم أجد أن هناك أية فائدة».
بصوته، وهو فى موقع السلطة، اعترف بأنه كان شابًا تائهًا يبحث عن طريق.
هناك فارق جوهرى بين الحيرة والالتزام، بين ما داخل فكره وتكوينه من تأثير بالاتصال بقوى وتيارات متباينة بحثًا عن طريق والانخراط فى عضويتها اقتناعًا بأفكارها.
الخلط تعسف مع التاريخ والحقيقة.
وهناك فارق جوهرى آخر بين دواعى الاتفاق فى لحظة وأسباب الصدام فى لحظة أخرى.
اختلفت المناهج فى النظر إلى مستقبل مصر، وكان الصدام محتما.
كانت محاولة اغتيال «جمال عبدالناصر» فى ميدان المنشية بالإسكندرية نقطة الذروة فى الصدام، لكن أساسه فى الأفكار والمناهج وتصور الجماعة أن بوسعها السيطرة على مجموعة الضباط الشبان واختطاف السلطة فى بواكيرها.

تنوع التوجهات الرئيسية بين «الضباط الأحرار» جعل التنظيم أقرب إلى جبهة لها أهداف مؤقتة وصراعاتها مؤجلة إلى حين.
بالنظر إلى طبيعة المرحلة وأولوياتها، تبدت درجة عالية من السيولة بين التيارات، رغم تناقض الأفكار.
ما بين التناقضات السائلة ظهرت توجهات رابعة وخامسة وسادسة أقل أهمية فى البنية الفكرية والسياسية لـ«الضباط الأحرار» ـ كأن يميل بعضهم بحكم الأصول العائلية إلى حزب «الوفد»، أو يحافظ آخرون على شيء من الولاء السياسى والنفسى لـ«مصر الفتاة»، أو أن يندفع مغامرون ـ مثل «أنور السادات» ـ بالتورط فى اغتيالات ومحاولات اغتيالات نفذها «الحرس الحديدى»، الذى كان يقوده طبيب الملك الخاص «يوسف رشاد».
كان تأسيس «الضباط الأحرار» تعبيرًا عن أحوال غضب فى الجيش، نشأت خلايا متفرقة تحت قيادات متعددة، لكل ضابط حر رواية تختلف عن الآخر بقدر ما رأى وعرف وشارك.
حسب الشهادات المنشورة لـ«الضباط الأحرار»، فإن غالبيتهم أدخلوا التنظيم عبر «جمال عبدالناصر»، الذى أحكم قبضته على كل الخيوط.
تجلت مواهبه التنظيمية فى جمع أشلاء الخلايا المبعثرة داخل الجيش ودمج تناقضاتها السائلة داخل تنظيم سرى محكم له أهداف عامة عُرفت بـ«المبادئ الستة».
حافظ على صلاته العامة مع جماعات سياسية متناقضة ووظفها لمقتضى أهدافه دون أن يسمح بالتداخل التنظيمى.
لم تكن لدى «عبدالناصر» ورفاقه خطة للإمساك بالسلطة، لكنها سقطت كاملة بسهولة لم يتوقعوها.
انهار النظام الملكى من داخله على دفعات وليس مرة واحدة، حتى بدا بنيانه كجدار متهالك ينتظر من يزيح ركامه.

كان «مصطفى النحاس» زعيمًا وطنيًا حاز شعبية كبيرة تعرضت للتآكل الفادح بعد توقيعه معاهدة (١٩٣٦) مع سلطات الاحتلال، التى أفضت ـ رغم مثالبها ـ إلى دخول جيل جديد من أبناء الطبقة الوسطى والمزارعين وصغار الموظفين الكلية الحربية، من بينهم «جمال عبدالناصر» ورفاقه.
فى اللحظة، التى ألغى فيها «النحاس» المعاهدة بأكتوبر (١٩٥١) «باسم الشعب» انتهت صفحة كاملة من التاريخ المصرى قبل أن تتحرك دبابة واحدة صبيحة (٢٣) يوليو.
بتوصيف شيخ المؤرخين المعاصرين الدكتور «يونان لبيب رزق»، فإن إلغاء المعاهدة «أخرج المارد من القمقم، الذى أجهز على ما بقى من النظام القديم، ولم يكن بوسع أحد أن يُعيده حتى الوفد نفسه».
انفسح المجال واسعًا أمام القوى الوطنية الشابة لحمل السلاح فى منطقة قناة السويس، وكان الضباط الأحرار فى قلب المشهد التاريخى.
ساعدوا بقدر ما استطاعوا على تدريب الفدائيين، وشاركوا بأنفسهم بقدر ما هو متاح فى قتال قوات الاحتلال واستهداف معسكراتها.
تسجل مذكرات «كمال رفعت»، أحد أبرز وجوه «يوليو»، تجربة الفدائيين ودور «الضباط الأحرار» تنظيمًا وتدريبًا وتسليحًا.
كان ذلك تطورًا جوهريًا فى النظرة العامة داخل جيل الأربعينيات للقضية الوطنية، بعد أن بدا اليأس كاملًا من أى جلاء لقوات الاحتلال بالتفاوض.
تجاوزت العمليات الفدائية أية أعمال فردية سابقة شهدتها شوارع القاهرة من مهاجمة أفراد قوات الاحتلال، والاستيلاء على ما لديهم من أسلحة وذخائر.
حسب شهادة «كمال رفعت»: «شاركت فى عمليات الفدائيين بمنطقة القناة بعد إلغاء المعاهدة، وكان ذلك بمعرفة رئاسة التنظيم» ـ قاصدًا «جمال عبدالناصر»، الذى ربطته به علاقة وثيقة منذ مطلع شبابه حتى النهاية.
«دربنا طلبة متطوعين بمنطقة طريق القاهرة ــ الفيوم، وتولينا قيادة بعض العمليات فى الاسماعيلية والقصاصين والتل الكبير ضد المعسكرات البريطانية.. وكانت رئاسة التنظيم تمدنا بما نحتاجه من سلاح وذخيرة».
«بعد حريق القاهرة قُبض على أفراد التنظيم الفدائى وصودرت أسلحته».
توقفت العمليات الفدائية بسبب تلك الاعتقالات، لكن بعد شهور قليلة كان الرد مدويًا بما جرى يوم (٢٣) يوليو».
شاركت فى العمل الفدائى جماعات متباينة، من بينها «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى ـ حدتو»، أكبر تنظيمات الحركة الشيوعية، و«الإخوان المسلمين»، و«مصر الفتاة»، وحزب «الوفد» نفسه، وانتدب شبان غاضبون أنفسهم للتضحية بحياتهم بوازع وطنيتهم.
باستثناء أعمال شحيحة وشهادات متناثرة لم تكتب قصة هذا الجيل كما تستحق، ولا سجلت تجربة الفدائيين كما يجب.

كان عام (١٩٥١) مشحونًا بإشارات النهاية.
كتب «إحسان عبدالقدوس» فى «روزاليوسف» ـ (٨) مايو ـ مقالًا عنوانه «دولة الفشل».
جاء فيه بالحرف الواحد: «إننا فى مصر نؤمن بالفشل ونعبد الفاشلين.. الفشل فى كل مكان.. وأمام كل خطوة ووراء كل زعيم، وفى حنايا كل ملف وفى ظلام كل درج وفى طيات كل صوت.. والفاشلون هم الذين يحكمون مصر، وهم الذين يسوقونها من فشل إلى فشل ثم إلى فشل جديد».
أخطر ما فى هذا المقال ما كتبه عن وزير الحربية، فهو «فاشل.. فشل حتى فى الاحتفاظ باختصاصه وترك الجيش يخرج من بين يدى الحكومة والشعب، ليكون هيئة كهنوتية لها أسرارها، ولها سلطانها، ولها استقلالها، ولها قائد فاشل».
كان ذلك تلميحًا إلى أن هناك شيئًا قد يحدث من داخل الجيش لإنهاء دولة الفشل.
وقد كان حريق القاهرة فى (٢٦) يناير (١٩٥٢) إنذارًا أخيرًا بما هو آتٍ.
فى اليوم السابق تصدى ضباط وجنود الشرطة فى الاسماعيلية بأسلحة بدائية لقوات الاحتلال البريطانية رافضين تسليم مواقعهم.
أفضت الواقعة بما حملته من استهانة بريطانية وما عبّرت عنه من شجاعة مقاومة إلى إضراب عام فى العاصمة لـ«بلوكات النظام».
تداعت الأحداث بعده إلى حرائق فى قلبها.
أفلت النظام العام وسادت الفوضى وعمليات النهب والتخريب.
فرضت الطوارئ ونزل الجيش ـ لأول مرة فى التاريخ المصرى الحديث ـ لاستعادة السيطرة وفرض الهدوء على المدينة المروعة.
حتى الآن لا توجد إجابة لها صفة الفصل على سؤال: من حرق القاهرة؟
الأقرب إلى الحقيقة أن مخزون الغضب وجد انفجاره فى إضراب «بلوكات النظام» ـ كأنه عود ثقاب ألقى على أرض مشبعة بالوقود.
بقدر تعدد الإجابات تتبدى حقيقة رئيسية أن النظام الملكى لم يعد قادرًا على البقاء، ولا مقنعًا بقدرته على تلبية احتياجات المصريين فى عصور جديدة.
أثر حريق القاهرة شاعت فى الأجواء العامة قصيدتان.
أولاهما ـ للشاعر «اسماعيل الحبروك»:
«سأنام حتى لا أرى.. وطنى يُباع ويُشترى
سأنام عن عهد القتال.. حلم تحقق فى القنال
أضحى الجهاد جريمة.. فلتسجدوا للاحتلال!!»
وثانيتهما ـ للشاعر «مأمون الشناوى» دعا فيها الجيش بلا مواربة إلى إطاحة النظام الملكى:
«أنت إن تنصره ـ يا حارس ـ كنت المندحر
أنت إن تخذله ـ يا حارس ـ كنت المنتصر!»
«أترى يبقى طويلًا جالسًا فوق الرماح
لن يطول الليل.. بل لا بد أن يأتى الصباح»
وكانت ذروة دعوته لتدخل الجيش:
«غضبة من عزمك الجبار تمحو كل باطل».
فى نفس توقيت تلك القصيدة التحريضية على قلب النظام الملكى فكر «الضباط الأحرار» باستغلال نزول الجيش إلى الشوارع للقيام بانقلاب عسكرى، لكن «عبدالناصر» مال إلى كسب بعض الوقت، حتى يستكمل مثل هذا العمل فرص نجاحه.
لم تكن إطاحة النظام الملكى حدثًا مفاجئًا قفز من خارج سياق الحوادث، أو بعمل سرى محض جرى فى الظلام.
كان كل شيء فوق المسرح السياسى يُنذر بنهاية قريبة لم يكن بمقدور أحد أن يتكهن طبيعتها وصورتها وما بعدها.
فى هذه الأحوال المضطربة علا طلب التغيير بأثر من تطورين جوهريين:
أولهما ـ تداعيات ما بعد الهزيمة العسكرية فى حرب فلسطين، التى أفضت إلى مراجعات غاضبة لمستويات الكفاءة العسكرية وأهلية الملك «فاروق» للحكم، وتساؤلات حادة عن مدى مسئولية الفساد المتفشى حوله فى الهزيمة، ونشوء دولة معادية على الحدود تهدف ـ فيما تهدف ـ إلى عزل مصر عن محيطها العربى.
وثانيهما ـ حقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد اختلفت موازين القوى الدولية، وبدا العالم كله فى حالة سيولة، انتظارًا لنظام عالمى جديد.
ارتفعت نداءات التحرر الوطنى وحق تقرير المصير والعدل الاجتماعى فى أرجاء العالم، وكان ذلك ملهمًا للحركة الوطنية المصرية، للبحث عن طريق جديد وتبنى أفكار جديدة.
كان «الضباط الأحرار» جزءًا من طاقة الغضب على كل ما هو تقليدى متهالك وموروث سقيم من أفكار وسياسات ومواقف.
خرجت «يوليو» من داخل الحركة الوطنية الشابة بأفكارها وأحلامها وإحباطاتها، والروح الراديكالية التى سادتها فى طلب الجلاء والتغيير ــ من داخل السياق لا من خارجه.
كان نجاح الحركة فى صبيحة (٢٣) يوليو ملغمًا باحتمال تدخل القوات البريطانية، التى تبلغ (١٢٠) ألف جندى فى معسكرات قناة السويس لإجهاضها.
بدا كل احتمال مرتهنًا بمدى الدعم الشعبى الذى تحوزه الحركة.
إذا ما كان قويًا فإنه قوة ردع لأى احتمال تدخل.
هذا ما حدث بالضبط.
بحكم الوثائق البريطانية فإن الملك «فاروق» طلب التدخل العسكرى لإجهاض التمرد عليه على نحو ما فعله عمه الخديو «توفيق» عام (١٨٨٢)، لكنه لم يتلق إجابة.
بدا «فاروق» مذعورًا ـ وفق برقية للسفير الأمريكى «جيفرسون كافرى»، الذى أخذ يهدئه دون جدوى.
لم تكن هناك أية معلومات لها قيمة عن توجهات الحركة، ولا من يمسكون بزمام الموقف فتبدت تناقضات فى الاستنتاجات والتصرفات.
بقوة الوثائق الدامغة فإن أى حديث عن صلة ما ربطت «الضباط الأحرار» بالاستخبارات الأمريكية محض كلام فارغ.
جرت اتصالات لضبط ردات فعل البريطانيين، ولم يكن الأمريكيون فى وضع يسمح لهم بتقدير موقف على قاعدة معلومات واضحة.
كان تغيير الوزارات بعد حريق القاهرة فى (٢٦) يناير (١٩٥٢) حدثًا متوقعًا كل لحظة.
شهدت تلك الفترة إقالة وزارة «الوفد» برئاسة «مصطفى النحاس»، وتولى «على ماهر» مقاليدها، ثم جاء الملك بـ«نجيب الهلالى» بعد شهر واحد قبل أن يقيله هو الآخر فى ظروف مريبة بصفقة مالية بلغت مليون جنيه، دفعها «أحمد عبود» وسجلتها برقيات السفارة البريطانية، ثم كلف «حسين سرى» بحكومة رابعة قبل أن يعود لـ«الهلالى»، لكن حكومته لم تتمكن من الاجتماع، فقد أطاحت «يوليو» باللعبة كلها.
جرى ذلك كله فى أقل من سبعة أشهر.
هكذا دخلت «يوليو» مسرح التاريخ بكل تناقضاته وصراعاته، أغلقت صفحة وبدأت أخرى.