على مدى أسابيع قليلة اتخذت شركة أوراسكوم للاتصالات، التى يرأسها رجل الأعمال نجيب ساويرس، موقعا بارزا فى قلب «المسألة الوطنية المصرية»، فى نسختها لعام 2009.
المرة الأولى كانت ابتداءا من 16 نوفمبر الماضى، قبيل المباراة الفاصلة مع الجزائر فى الخرطوم، حينما هاجمت أعداد من المشجعين الجزائريين بعض مقار شركة جيزى التابعة لأوراسكوم فى الجزائر. أما المرة الثانية، فبدأت مساء الخميس الماضى عندما تجددت نيران الصراع على الشركة المصرية لخدمات التليفون المحمول (موبينيل) بعد سماح هيئة الرقابة المالية غير المصرفية لفرانس تيليكوم (شريك أوراسكوم فى أكبر شركات المحمول المصرية)، بتقديم عرض شراء على كامل اسهم الشركة، مما يهدد سيطرة ساويرس وشركته على أولى محطات انطلاقه الكبرى لعالم الأعمال.
القضية الوطنية، الغائبة عموما، وجدت نفسها بغرابة فى مقدمة المعركتين، وإن كان ذلك قد تم بشكل متباين للغاية.
فى حالة أوراسكوم ضد الجزائر كانت الأولى تدافع عن الاستثمار الأجنبى المباشر الذى تمثله، والذى يبنى الاقتصاد الجزائرى ويخلق الوظائف للجزائريين...الخ فى مواجهة روح حمائية متعصبة خلقتها انفعالية جماهير الكرة وأذكتها ربما مصالح شركة أخرى منافسة متداخلة مع شركاء لهم ارتباط وثيق بالجيش الجزائرى ودولته.
وفى الحالة الثانية، تبنت أوراسكوم الخطاب العكسى تماما. ففى خلافها مع شريكتها، فرانس تيليكوم، التى دخلت السوق المصرية فى الأساس عبر شراكتها مع ساويرس، برر رئيس الشركة، إصراره وعناده فى المعركة القانونية التى اندلعت مع الشريك الفرنسى، بحرصه «الوطنى» على «أموال المساهمين المصريين»، وعلى المشتركين والعمال المصريين فى هذه «الشركة المصرية»، فى مواجهة «عجرفة»، الفرنسيين، الذين ينزحون أرباحهم من أموال المشتركين للخارج.
وينحل التناقض إذا عرفنا أن أوراسكوم (للاتصالات) أو تيليكوم كما هى معروفة فى الــ 11 دولة التى تعمل بها هى نموذج لظاهرة فريدة فى الاقتصاد المصرى بزغت فى السنوات الاخيرة، هى الشركات المصرية عابرة للقوميات من حيث النشاط. ظاهرة لا تنفرد بها أوراسكوم للاتصالات أو شقيقتها للانشاءات، وإنما تمتد لشركات أخرى يتسع نشاطها من الكابلات لحديد التسليح للخدمات المالية. شركات ذات نمط مصالح خاص يختلف كثيرا عن شركة المقاولون العرب مثلا فى عملياتها فى العالم العربى خلال العقدين الماضيين.
فموبينيل، وان كانت إحدى أهم عمليات الشركة، فإنها ليست الاكبر. أوراسكوم لها وجود فى أسواق تمتد من باكستان وبنجلاديش حتى كوريا الشمالية شرقا والجزائر وتونس غربا حتى كندا، ثم إيطاليا شمالا وزيمبابوى جنوبا.
إذن ماذا يعنى نجيب ساويرس عندما يتحدث هنا عن «شركته الوطنية»، التى تصل قيمتها السوقية بحسب البورصة المصرية إلى 24.3 مليار جنيه، فى وقت قد يأخذ عليه فيه المنطق الوطنى التقليدى انه يستثمر أمواله فى الخارج خالقا الوظائف للجزائريين وغيرهم بدلا من المصريين؟
الاجابة عن هذا السؤال بسيطة للغاية. فى أواخر 1997 وأوائل 1998، انفجرت أزمة جنوب شرق آسيا، لتطيح بما سمى وقتها بنمور النمو الآسيوية. وفى تفسير الازمة فضل البعض، منهم رئيس الوزراء الماليزى مهاتير محمد، القاء اللوم على المضاربين بدلا من تناقضات الاقتصاد الحقيقى فى هذه الدول. بل ذهب الأمر بالبعض لاتهام مستثمر وحيد بالوقوف وراء الأزمة وهندستها، فى إطار مؤامرة يهودية عالمية، هو جورج سوروس.
وقتها كتب المفكر الراحل عبدالوهاب المسيرى مقالا قال فيه عن حق إن «سوروس هو نموذج جيد للرأسمالى المضارب» غير المنتمى (فالرأسمالى الحق لا ينتمى إلا لرأسماله وما يحققه من أرباح) الذى لا يتوانى عن جمع الربح من المضاربات فى الأسواق المالية، أية أسواق، ولا يتورع حتى عن بيع يهود المجر (بنى وطنه وعقيدته!) إلى أعدى أعدائهم.
ولا تختلف أوراسكوم مصر فى ذلك عن جنرال موتورز أمريكا ولا فرانس تيليكوم فرنسا. وطن أوراسكوم هو الأرباح، من باكستان أو من بنجلاديش، من مصر أو من كندا. وإلا كيف نفسر أن نجيب ساويرس، وهو المؤسس والعقل المفكر والاب الروحى للشركة، هو أول مستثمر فى مجال المحمول والاتصالات فى كوريا الشمالية، دولة ديكتاتورية الزعيم الفرد، فى وقت يصف به نفسه بالليبرالى. أو كيف نفسر أنه كان يدرس اقتحام سوق المحمول فى كوبا، فى وقت كان مازال يحكمها فيه القائد الشيوعى فيديل كاسترو، وهو ــ اى ساويرس ــ الرأسمالى الذى لا شك فى رأسماليته. إنه الربح إذن.
إنه الربح إذا مائة مرة. موبينيل هى الشركة التى تمثل ثانى أعلى عدد من المشتركين بين الشبكات التابعة لها (تجاوز الـ20 مليونا كما نعلم جميعا)، وخسارتها فى اللحظة الراهنة، التى تتقلص فيها الاسواق وتضيق فرص الاستثمار الجديد وآفاق التوسع فى قطاع الاتصالات، شىء مؤلم للغاية، سواء لأوراسكوم أو لفرانس تيليكوم.
وفى المواجهتين أوراسكوم ضد الجزائر، وأوراسكوم ضد فرنسا، لا يمكن فهم الموقفين المتناقضين من استثمارات الاجانب، دفاعا عن دورها فى البناء الوطنى والاجتماعى فى الجزائر مقابل شيطنتها فى مصر إلا استنادا على مرجعية هذا الوطن، الذى لا حياة للشركة دونه، بل ويعاقب القانون، مجلس ادارتها وساويرس نفسه، بانطلاقه من حماية مصالح المساهمين، إذا أخل بالتزامه به، باتخاذه اية سياسات لا تحقق زيادة متراكمة فى الارباح واتساعا متواصلا فى النشاط. ولا يقبل فى ذلك على الاطلاق مبررات المصلحة القومية أو اعتبارات دفع عجلة الاقتصاد الوطنى.
واليوم، حين يبدأ السريان المقرر لعرض فرانس تيليكوم لمن يملكون 29% من موبينيل عبر الاسهم حرة التداول فى البورصة بالشراء بسعر 245 جنيها، فإن الدافع الاساسى وربما الوحيد، الذى سيحدد قرار هؤلاء أيضا بقبول العرض من عدمه، قبول قد يعطى اغلبية الاسهم والتحكم فى الشركة لفرنسيين على حساب مصريين، هو وطن الجميع ومرجعهم فى عالم المال: الأرباح.