فى مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات كانت فكرة الثورة تتعرض لنقد وهجوم شديدين فى مصر تحت شعار «مصر ليست تونس». كانت انتفاضة الياسمين، كما كان يطلق عليها آنذاك قد أجبرت للتو ديكتاتور تونس على الفرار إلى السعودية. لم تكن فكرة الثورة بديلا مطروحا سوى فى خطاب قلة قليلة قبل تونس حتى والانتخابات يتم تزويرها كما لم يحدث من قبل، وحتى مشروع توريث الحكم فى الجمهورية المصرية تحت مظلة دولة العادلى الأمنية يبدو سائرا فى طريقه. أتذكر الزميلة والصديقة الصحفية التى كانت تغطى دهاليز الحزب الحاكم، وهى تنفجر باكية مؤكدة أن الابن قادم للحكم بكل الطرق والوسائل وأن كل الأوراق تم ترتيبها مع المعارضة والقوى الدولية وأوساط الأعمال وأجهزة الدولة وأن أى مقاومة ستكون ضعيفة للغاية وسيكون معناها دما رخيصا.
فى وسط هذا السواد جاءت تونس. فانطلقت ترسانة من الأسلحة للتشكيك فى فكرة الثورة وفى إمكان حدوثها فى مصر لكل الأسباب وعكسها. رأينا هؤلاء المعارضين الذين دافعوا ــ من مقاعد المعارضة مستخدمين كل الأمثلة التاريخية الخاطئة عن انتهاء فكرة الثورة فى التغيير السياسى ينبرون للحديث عن كيف أن مصر ليست تونس: لأن التوانسة أفضل تعليما، أو لأنهم أكثر تنظيما، لأن النقابات التونسية قوية، لأن الشعب التونسى بحكم قربه من أوروبا أكثر تطورا منا فى إيمانه ووعيه بالحرية وغيرها من قيم الإنسانية الحديثة التى يفتقر لها المصريون.. قال لنا المحافظون، يسمون أنفسهم كثيرا بالواقعيين، إنه لا توجد قوة منظمة تخطط وتنفذ ثورة ضد هذا الجهاز القمعى الجبار وإن الناس منصرفون عن السياسة فكيف بهم بالثورة؟ وقال لنا من هم فى الحكم معكوس هذا بالضبط: إن ما حدث فى تونس هو نتاج أن نظام بن على كان قمعيا بما لا يقاس بمصر وإن النظام المصرى يسمح بقدر من التنفيس فى الإعلام وغيره بما يفرغ الغضب المتراكم أولا بأول. بل خرج أحد الوزراء (من المحكوم عليهم بعد يناير ٢٠١١ فى قضايا تربح لشركاته من المال العام) ليقول إنه لا ثورة فى مصر بسبب الدعم الذى يضمن قدرا من الولاء وإبقاء أوضاع الفقراء مستقرة.
ولم يستغرق الأمر سوى أيام وحدثت الثورة، ثم أجبرت النظام على تنحية مبارك فى ١٨ يوما محطمة رقم تونس القياسى.
عودة الواقعية والواقعيين
وبعد أيام قليلة تدخل الثورة المصرية عامها الرابع، وهى لا تبدو فى أحسن حال. تبدو مجهودات استعادة نظام مبارك على قدم وساق حتى بوجوهه القديمة ذاتها وليس فقط على مستوى استمرار سياساته. يظهر المتحدث باسم الحكومة على شاشة التليفزيون مخاطبا ربيب مبارك الهارب من القانون فى الخارج واصفا إياه بالبك ومرحبا بعودته إذ إن مصر بعد ٣٠ يونيو مفتوحة على المبادرات لإعادة الأمور إلى نصابها فى إشارة إلى نفس صفقة العفو مقابل ما يقال إنه نصف ثروته المنهوبة منا التى كان الاخوان يصكونها بقدر أكبر من التكتم حين كانوا فى الحكم. عاد «الواقعيون» بجميع أشكالهم وصورهم ليؤكدوا لنا مرة أخرى أن خياراتنا محصورة فى ذلك التوازن الذى يسيطر عليه نظام مبارك فى شكله الجديد، وأن علينا أن نقبل تجلياته كأقصى ما يمكن تحقيقه، خاصة أن هذه المرة صار النظام القديم الجديد يتمتع بدرجة من التأييد فى الشارع لم يتمتع بها فى السابق، بينما عادت الاعتقالات وعاد التنكيل وكأنهما من حقائق الكون الثابتة المتعلقة بهذا الجزء من العالم.
لا يخجل هؤلاء وغيرهم ممن يسمون أنفسهم «واقعيين» من تكرار نفس الخطاب الذى تبدو قشرته الواقعية لكن مضمونه هو الإذعان. بل يبدو وكأنه رد اعتبار لفشلهم المزرى فى إدراك واقعية الثورة وحاليتها فى يناير، حتى لتفادى حدوثها والإبقاء على النظام. لكن هل يمكن بالفعل التنبؤ بثورة؟
كانت ثورتا تونس ومصر مفاجأتين كاملتين لكل طائفة الواقعيين، الذين يكتفون بما هو فوق السطح، سياسيين ومعارضين، محللين وأكاديميين. من وحى المفاجأة، نشرت مجلة «ذى أتلانتيك» الأمريكية الشهرية تقريرا بعنوان «هل يمكن أن تتنبأ البيانات بالثورات؟» متحدثة عن مؤشر وضعته الإيكونوميست تحت عنوان «من يرمون الأحذية» يحاول التنبؤ من خلال مؤشرات من ضمنها التركيبة العمرية للسكان ونسبة من هم تحت ٢٥ عاما، عمر الحكام فى مناصبهم، الفساد ونقص الديمقراطية، سيادة الرقابة، ومستوى التنمية الاقتصادية. وبرغم قصور بعض هذه المؤشرات أو ضرورة استكمالها بعناصر أخرى إلا أن المؤشر يلمس شيئا من الواقعية السليمة (الواقعية حقا) فيما يتعلق بإمكانية الثورات: الأسباب الهيكلية وراءها.
أزمة حكم
لم يكن فى المستطاع قبل تونس أو حتى قبل ٢٥ يناير تحديد لحظة الثورة أو الكيفية التى ستحدث بها. لكن كان من الممكن، لمن ينظر فى عناصر أزمة الحكم الهيكلية، أن يتوقع أنها البديل الوحيد الواقعى لتجاوزه. فى مقال نشرته الشروق يوم الثلاثاء ١٨ يناير ٢٠١١ كتبت السطور التالية فى نفس الإطار: «ينهى نجم قصيدته عن الثورة الإيرانية قائلا: تمسك ودانك من قفاك ..تمسك ودانك من هنا.. اللى حصل فيهم هناك.. لازم حيحصل عندنا. ولا أستطيع أنا أو غيرى أن نجزم بنفس الاندفاع العاطفى لشاعر أن السيناريو التونسى سيحدث فى مصر اليوم أو غدا أو بعد سنة. غير أن العناصر الهيكلية الأساسية الموجودة هناك موجودة فى مصر، من نمو اقتصادى لحساب القلة، وتنمية مفقودة فى الصعيد، وتصاعد للتذمر فى صفوف الطبقة الوسطى وحتى بين قيادات النخبة الحاكمة، التى لا تبدو متفقة على الخطوة القادمة، جنبا إلى جنب مع الأزمة الاقتصادية العالمية وقابليتنا العالية للتأثر بها. الخالق الناطق هناك.. الناطق الخالق هنا»*
وأكاد أدعى هنا أن أزمة الحكم الهيكلية ــ برغم ما يبدو على السطح من تمكن النظام من كل الخيوط السياسية ــ مازالت مستمرة معنا. فلا تبدو هناك رؤية واحدة متوافق عليها بين أجنحة الحكم المختلفة. مثلا، داخل الرأسمالية الكبيرة، هناك من يدفع الأمور دفعا لإعادة الأمور للطريقة القديمة بحذافيرها كما يظهر الأمر فى حالة «حسين بك» أو فى استقبال وزير الاستثمار لرجل أعمال هارب فى مكتبه ثم إصداره بيانا يؤكد فيه أنه طمأنه على أوضاع الاستثمار. وداخل الرأسمالية الكبيرة نفسها جناح آخر يرى أن الطريقة القديمة لم تعد تفلح فى تحقيق استقرار الحكم وأنه لابد من تقديم بعض التنازلات لاستيعاب الأزمة الاقتصادية الاجتماعية السياسية. صوت هذا الجناح الأخير خافت للغاية لكنه مازال موجودا. انظر إلى تطورات تسمية مرشح النظام للرئاسة: كم اسما على الطاولة؟ بل إن الموقف الخليجى الذى كان يبدو واضحا ومباشرا صار هو نفسه مدخلا فى عدم اتضاح الصورة. ويبقى السؤال الأهم: هل لدى هؤلاء ما يقدمونه لحل أزمة الحكم؟ هل يستطيعون الحفاظ على مصالحهم الاستراتيجية وفى الوقت نفسه تقديم شىء ملموس لمن يعولون عليهم الآن فى الشارع (لأنهم شرط تحسين الحال)؟ هل يمكن لهؤلاء وهم على ما هم عليه أن يحققوا حدا أدنى من التنمية التى تكفل استتباب الأمر؟ هل يمكنهم التعامل مع أزمة العاطلين؟
فى حالة الثورة الألمانية المهزومة ١٩١٨-١٩٢٣ كان الدعم الأمريكى المباشر سببا فى استتباب الحكم الجديد قليلا حتى ١٩٢٨ لدرجة أن الحكام بدأوا يتحدثون عن انتهاء خطرى الشيوعية والفاشية للأبد، لكن عناصر الأزمة ظلت كامنة وعادت المواجهة لتقدم النازية نفسها بديلا بأوراق اعتماد بدا أنها أنقذت الاقتصاد.
الأكثر من ذلك فإن نفس عناصر أزمة الحكم الهيكلية تضع حدودا لقدرة الإصلاحية المصرية من أنصار الحلول التدريجية والمواءمات (من الواقعيين وغيرهم) على تقديم البديل. الإصلاحيون يقدمون أنفسهم كبديل للثورة «غير الواقعية» على أساس أن ما يقدمونه، وإن كان ليس كل شيء، إلا أنه ممكن. لكن الإصلاحيين اصطدموا فى حكومة الببلاوى، وقبلها، بحقيقة أن الأزمة الهيكلية للحكم، وتصلب المصالح التى تحكم، لا يسمحان بالمرونة التى يتطلبها الإصلاح، خاصة عندما يفتقر الإصلاحيون إلى ظهير اجتماعى يعطيهم قوة تفاوضية على طاولة الحكم. الأزمة الهيكلية مازالت تفرض أن تكون هناك ثورة تقلب كل توازنات الحكم من أجل الحصول على أى إصلاح ولو صغير، ولو حتى كان إعادة رصف كوبرى ٦ أكتوبر بشكل صحيح.
ويجب ألا ننسى هنا أن هناك تناقضا كبيرا بين الطريقة التى سقط بها الإخوان (حشد جماهيرى واسع فى الشارع) وهى أساس شرعية حكم ٣ يوليو وما بين الخطاب الواقعى برمته الذى يدين العمل المباشر فى الشارع الآن. ويجب ألا ننسى أيضا قصور الكل عن رؤية ما يعتمل حقا فيما يسمى بالشارع. فتعميم مشاعر ومخاوف ومصالح الطبقة الوسطى المترددة، التى لم تمنع محافظتها البالغة بعض نسائها من الرقص أمام الكاميرات احتفالا باستفتاء اليومين الماضيين على المصريين، خطأ بالغ. كون هؤلاء هم المستهلك الأول عموما والمستهلك الأول للإعلام والصحافة، لا يختصر المصريون فيهم على الإطلاق. ويجب ألا ننسى ثالثا أن المصريين بمصالحهم المتباينة ليسوا كتلا صماء ثابتة فى تصوراتهم عن العالم، وأن تاريخ الثورات عامر بأمثلة بتحول الجماهير المفاجئ من بديل لآخر، عندما يكتشفون بتجربتهم هم أن ما عولوا عليه خيب آمالهم، وفى لمح البصر (كما حدث مع حكم الإخوان مثلا). فما بالنا بهم بعد تجربة الـ٣ سنوات الماضية، التى جربوا فيها قوتهم وضعف خصومهم من أصحاب المصالح المتعارضة مع مصالحهم، مرة ومرات.
* الشروق، الثلاثاء ١٨ يناير ٢٠١١ انتفاضة الياسمين التونسية.. الخالق الناطق هناك.. الناطق الخالق هنا.