شهدت أواخر مارس وأول أبريل 1979 حدثين شغلا العالم العربى بأكثر من أى حدث آخر على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، الأول: نفاذ معاهدة السادات/إسرائيل، والثانى: كسب الثورة الخومينية استفتاء بإقامة جمهورية إيران الإسلامية. واستمر الصراع العربى الإسرائيلى بفعل الطبيعة العدوانية للكيان الصهيونى، واندلعت حرب إيرانية عربية تصدى لها العراق، ثم توالت تداعياتها على نحو ما زال يقلق جيرانها، الأمر الذى دفع بعض المراقبين إلى المقارنة بين الصراعين. فمنهم من تصور أن كليهما سيظل مصدر استنزاف لموارد العرب ويعرقل تنمية هم فى أمس الحاجة لتكريس جهودهم لها، الأمر الذى يدفع للبحث عن نهاية للصراع لصالح الأمة العربية. وبحكم أن الكيان الصهيونى هو كيان دخيل مغتصب لأرض عربية، فإن حسم الصراع بإزالته، أو على الأقل تحجيم وجوده، يكون أمرا مشروعا وواجبا.. وفى هذا السياق أدينت معاهدة السادات/إسرائيل، خاصة وأنها لم تمنح الشعب المصرى ثمار السلام peace dividends وفتحت على فلسطين ولبنان أبواب جهنم وتركت سوريا حائرة فى كيفية تطهير أراضيها من الدنس. غير أن المشكلة التى بدت أكثر تعقيدا هى كيفية التعامل مع إيران: فهى دولة أصيلة وتشارك جاراتها العربيات فى كونها محط أطماع الدول المستنزفة ولا أقول المستهلكة للطاقة. وهى دولة إسلامية، بل إنها جعلت من الإسلام منهجا تفرض من خلاله سلطة صارمة لا تترك للإصلاحيين ناهيك عن العلمانيين سبيلا. والمشكلة أنها تدين بمذهب تبعد الشقة بينه وبين المذاهب التى تندرج تحت قبة السنّة، وجعلته معيارا يحدد وفقا له نوع العلاقات التى تقيمها مع جيرانها. يضاف إلى ذلك أنها دولة ذات حضارة تضرب جذورها فى أعماق التاريخ، تعايشت أمدا طويلا جنبا إلى جنب مع الحضارة العربية الإسلامية، ولكنها تظل تمثل مجالا للتمايز الثقافى، ولو أنه أقل حدة من ذلك الذى يفصل بين إسرائيل وباقى ما يسمى الشرق الأوسط بعربه وفرسه.
إن هذا يعنى أنه لا يمكن سلخ إيران من مقومات وجودها، وهو ما يستدعى البحث عن كيفية التعايش معها فى سلام وإن لم يكن بذات الدفء الذى يفترض أنه قائم أو يجب أن يقوم بين أشقاء عرب. غير أن البعض يذهب إلى اعتبارها أشد خطرا من إسرائيل، لنفس الأسباب التى لا تسمح بتصور استبعادها نهائيا. والغريب أن العرب طرحوا مبادرة سلام على إسرائيل، بينما هى ترى أن السلام يجب أن يقوم على أعمدة ثلاثة: اقتصادى وسياسى وثقافى فى آن واحد. ولكنهم يذهبون مذاهب شتى عندما يتعلق الأمر بإيران. فمنهم من يقيم السدود فى وجهها خشية أن يؤدى «التطبيع» معها إلى قلاقل هم فى غنى عنها. ومنهم من يتهالك على إقحامها على التجمع العربى تاركين لها رسم الحدود التى يتوقف عندها التشاور وما يفضى إليه من توافق ترضاه الأمة العربية. ودون أن ندّعى أن التجمع العربى قد وصل إلى المستوى الذى يمكنه من بلورة رؤى واضحة عن قضاياه وحلولها، فإننا نرى أن إيران ليست فى وضع أفضل حالا، لأن مشاكلها تكمن فى داخلها وتنعكس على معالم علاقاتها الخارجية.
فإيران كانت صاحبة حضارة فارسية، وهى تمتلك حاليا ثقافة فارسية، فارغة من المضمون الحضارى. ورغم إنها اختارت ثوبا إسلاميا فإنها تشعر فيه بغربة عن محيطها الإسلامى أساسا. وبعد إجهاض محاولة مصدق المضى فى طريق التنمية المستقلة، سعت إيران الشاه إلى تعويض اغترابها الجغرافى بالانتماء إلى المعسكر الغربى، فى وقت كانت الدول العربية تناضل من أجل انتزاع استقلالها من هذا المعسكر. وجاء ذلك من منطلق الأطماع الخارجية التى تمثل اختيارا لسياسات تلبى أطماعا معينة، وليس من اعتبار داخلى يعكس سمة بنيوية متأصلة. فى ذلك السياق انتسبت إلى حلف بغداد فى مواجهة الجار الشيوعى. ثم أسست مع باكستان وتركيا ما يسمى «التعاون الإقليمى للتنمية»، وكان يهتم بإقامة مشاريع مشتركة تلبى احتياجات البلدان الثلاثة، دون أن يتطرق إلى تكامل إقليمى ينفذ إلى صميم السياسات الداخلية، لأن ما بينها لا يؤهلها لتكامل إقليمى فعال. ومع ذلك تداعى ذلك التنظيم حتى قبل قيام الثورة الإيرانية، التى شاركت فى إحيائه فى منتصف الثمانينيات باسم «منظمة التعاون الاقتصادى». ولكن هذه المنظمة ظلت هى أيضا كسيحة للتباين الكبير بين النظم الداخلية لأعضائها الذى أوجد تباينا حادا بين رؤى أعضائها لعلاقاتهم الخارجية. فتركيا تسعى إلى الاندماج فى محيطها الأوروبى، بينما سعت باكستان إلى ركوب القطار الأمريكى الذى صال وجال فى جنوب شرق آسيا، بينما وجدت إيران نفسها مغتربة فى نطاقها الإقليمى. وفى أعقاب تداعى الاتحاد السوفيتى تسابقت مع تركيا إلى جذب دول وسط أوروبا التى انسلخت عنه. غير أن علاقات تلك الدول العرقية كانت أقوى بتركيا التى ما زالت تتزلف إلى أوروبا.
المشكلة أن إيران تشعر بأنها تقف وحيدة فى محيط غريب عنها، لأسباب ثقافية، ببعديها الفارسى والعقائدى القائم على صيغة معينة للمذهب الشيعى، أشك كثيرا فى أن تنسحب عليها المبررات التى استند إليها علماء السنة فى إدراج الشيعة ضمن المذاهب المتفقة مع صحيح الدين. أيا كان الأمر فإن إقامة الدولة على أساس دينى مذهبى فجّر قضية لم يكن لها هذا الوزن من قبل، وهى أن مثل هذه الدولة لا بد وأن تختلف ليس فقط مع غير المسلمين تغليبا للرابطة العامة التى تجمع العالم الإسلامى وهى الإسلام بأركانه الأساسية، بل مع غير المنتمين إلى ذلك المذهب بعينه، وهو أمر ينطبق على أى نظام يتمسح بمذهب إسلامى أيا كان. وهنا تكمن الخطورة الحقيقية، لأن الصراع العقائدى القائم على أساسه لا يكون بين طوائف مختلفة الملة، كما هو الحال فى المشرق العربى، بل أدخل بشدة بعدما تتجمع مخاطره لتمثل تسونامى كاسحة، هو الصراع بين مذاهب ضمن الدين الواحد، وهو أمر يطرب له أعداء العرب والإسلام. فحتى يؤمّن النظام الحاكم فى إيران أوضاعه الداخلية سعى إلى إشاعة مذهبه فى الدول المحيطة واستعان فى ذلك بشعارات جاذبة لها فى مقدمتها القضاء على الصهيونية وتغذية القوى المقاومة لإسرائيل. ولعلى لا أبالغ إذا قلت إن كلا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى وإيران الخومينى اشتركت فى المزايدة على القضية الصهيونية دون رغبة حقيقية فى إنهائها، وفقد الدجاجة التى تبيض ذهبا.
ويخطئ من ظن للحظة أن أيا من تلك الأطراف كان أو سيكون جادا فى إنهاء القضية لصالح الحق العربى. وإذا كانت إيران الخومينية قد اتخذت موقفا مضادا لموقف الشاه فى هذه القضية، فإنها حققت أطماعه فى الأراضى العربية. فهى ترفض التخلى عن الجزر الثلاث التى اغتصبتها من دولة الإمارات، وما تفتأ تردد مطامعها فى مملكة البحرين...
القضية إذن بالنسبة لإيران هى قضية داخلية بنيوية تفرض عليها إما الاستمرار فى نهجها الحالى، أو أن تخلع النقاب وتعود إلى صحيح الدين وتطوّر ثقافتها الفارسية لتعود كما كانت حضارة معطاءة فى فروع العلم والمعرفة تتفاعل بإيجابية مع حضارة عربية نتوق إلى إحيائها، بعد أن كادت الحضارة الغربية الغالبة تجرفنا.