أعلن إيلون ماسك، مؤسس شركة تسلا، الشهر الماضى عن الجيل الجديد من روبوتات شركته الشبيهة بالإنسان، وتحدث عن الاقتراب من إنتاج جيل آخر أكثر تطورًا، قادر على إنجاز مهام أكثر تعقيداً كان من المفترض أنها حكر على الإنسان مثل: «حمل الأجنة» و«تقديم الرعاية للأطفال». ليس هذا فحسب؛ بل إنه أشار إلى أن عدد الروبوتات سوف يتجاوز عدد سكان العالم فى المستقبل القريب الذى حدده بعام 2040.
تثير التطورات الحالية والتصريحات بشأن المستقبل العديد من الأسئلة حول موقع «الإنسان» من ذلك العالم. فإذا كانت وظائف الكائن البشرى، المادية والمعنوية، جميعها سيتم نقلها لأشياء/ أجسام أخرى فهل سيظل الإنسان هو «مركز الكون»، بالمعنى والمفهوم الذى قامت عليه نظريات الإنسانية (Humanism)، وما ملامح المجتمعات الهجينة التى سيتعايش فيها الإنسان مع الروبوت ومن يقود الآخر؟ وإذا كانت الشرائح أو الأعضاء الاصطناعية المدعمة بالذكاء الاصطناعى المفرط قادرة على رفع قدرات البشر، فمن البشر الذين سيتم تعزيز قدراتهم؟ ومن سيكون له قرار الاختيار؟ وماذا عن البشر المتروكين خلف الركب؟ وإذا كنا نشهد طفرة تكنولوجية فى إمكانات الروبوتات الشبيهة بالإنسان أو الروبوتات الاجتماعية، فالأسئلة التى تطرح نفسها هنا هى: أى إنسان تشبهه هذه الروبوتات؟ وأى نسق قيمى تتبع؟ وأى موروث ثقافى تنتمى له؟ وهل يصح الحديث عن إنسان كونى تتشبه به الروبوتات؟ وما ملامحه؟ وهل انتهت البشرية التى نعرفها؟ ونتجه الآن إلى عصر «ما بعد الإنسان» (Posthumanism)، ولماذا هناك اتجاه شديد المثالية بشأن هذا التحول، وآخر شديد التشاؤم؟
لقد اكتسب مفهوم ما «بعد الإنسانية» اهتماما كبيرا ليس فقط فى الفكر الفلسفى، ودراسات التكنولوجيا؛ بل وأدبيات الخيال العلمى أيضا، وتصاعد الجدال الفكرى المرتبط بحركات «ما بعد الإنسانية». والتى قدمت عددا من المفاهيم مثل: «ما بعد الإنسانية» (Post humanism) و«تجاوز الإنسانية» (Transhumanism)، و«الفوق إنسانية» (Meta-Humanism)، وعلى الرغم من الاختلافات الموجودة بين تلك المصطلحات؛ فإنها تتفق جميعها على خلاصة واحدة وأساسية، وهى انتهاء شكل الإنسانية التى نعرفها، وأن مصطلح «الإنسانية» لم يعد الآن قادرًا على تعريف «من نحن» فى ظل الاندماج المتزايد بين الإنسان والآلة، وظهور مفاهيم مثل «السايبورج» (الروبوتات الإنسانية أو الشبيهة بالإنسان)، ناهيك عن المفاهيم المرتبطة بتطور التكنولوجيا البيولوجية، إضافة إلى زيادة اندماج الإنسان بالبيئة وصعود عصر «الإنثروبوسين».
خريف الإنسانية
قبل الحديث عن مفهوم «ما بعد الإنسانية»، ينبغى علينا أولاً فهم حركة «الإنسانية» (Humanism) وفرضيتها التى سادت لقرون، والتى يبدو أننا تجاوزناها.
يعبر مفهوم «الإنسانية» عن حركة فلسفية ظهرت خلال عصر النهضة فى القرن السابع عشر، نقلت ثقل التركيز من «اللاهوتية» إلى «الإنسان»؛ إذ منحت الإنسان اليد العليا فى تسيير حياته، وأكدت أن البشرية لا بد أن تتحمل المسئولية عن مصيرها، وتعول على جهودها لتلبية الاحتياجات والرغبات بدلاً من الاعتماد على الآلهة والمعتقدات الغيبية التى سادت أوروبا خلال العصور الوسطى. فكانت فلسفة الإنسانية هى رد فعل ضد الاستبداد الدينى فى أوروبا فى العصور الوسطى وانتشار الأساطير الدينية وتفسير العالم مصائر البشر بناءً عليها. فوفقاً للكتابات الغربية، انتزعت حركة «الإنسانية» السيطرة على مصير الإنسان من الإله ووضعته فى أيدى أفراد عقلانيين، وكان المقصود بالعقلانيين فى ذلك الوقت «الرجال البيض». وعلى الرغم من ارتباط هذه الفلسفة بعصر التنوير وتحرير الإنسان؛ فإنها فى واقع الأمر اعترفت فقط بعقلانية «الرجل الأبيض»، وكان البشر من دون البيض «أقل إنسانية».
فى هذا الإطار، ارتكزت حركة «الإنسانية» على معتقداتها الراسخة بالقيمة الفريدة والوكالة والتفوق الأخلاقى للبشر على جميع الكائنات الأخرى، وأن أهم ما يدعم هذا التفوق هو النسق الأخلاقى والقيمى لدى الإنسان؛ وهو الأمر الذى يؤهله ليكون فى مركز الكون، ما يعرف بـ«مركزية الإنسانية» (humancentric). وساد هذا الإطار المعرفى منذ ظهوره حتى فترة التسعينيات من القرن الماضى تقريبا؛ إذ بدأت التطورات التكنولوجية تأخذ منحى متسارعا ونوعيا، وظهرت بعض الآراء الفكرية التى تشكك فى ذلك النموذج، وتحدت فكرة أن البشر سيظلون دائما الوكلاء الوحيدين للعالم الأخلاقى؛ بل أشارت إلى أنه فى ظل التكنولوجيا؛ فإن فهم العالم باعتباره هرما أخلاقيا، يضع البشر فى قمته لن يكون ذا معنى.
السير نحو «ما بعد الإنسانية»
يُعد مفهوم «ما بعد الإنسانية» مظلة لعدد من المفاهيم والمدارس الفكرية، وأهمهما مفهومان أساسيان:
• ما بعد الإنسانية (Posthumanism): يشير المفهوم بالأساس إلى نقد الفكرة التقليدية التى ترى الإنسان كائنا مركزيا متميزا عن غيره فى الكون. ويسعى «ما بعد الإنسانية» إلى تفكيك الحدود الثنائية التى لطالما حكمت الفلسفة الغربية، مثل: الإنسان/ غير الإنسان، الطبيعة/ الثقافة، الذات/ الموضوع؛ ويهدف هذا التوجه إلى إعادة النظر فى الوكالة (Agency) ودورها من خلال إدراج غير البشر مثل: البيئة والآلات، ضمن دائرة الفاعلية والتأثير. وفى هذا الإطار، يتصاعد مفهوم وكالة غير البشر (Non-human agency) الذى يدعم ذات التوجه. فيؤكد مفهوم «ما بعد الإنسانية» أن الطبيعة البشرية سائلة ومتغيرة ومتشابكة مع كيانات غير بشرية. فمع التقدم السريع فى الذكاء الاصطناعى والتكنولوجيا الحيوية والروبوتات، أصبحت الخطوط الفاصلة بين البشر وغير البشر تتضاءل بشكل متزايد. وتشكل الأسئلة حول الهوية البشرية والاستقلالية والأخلاق ودور التكنولوجيا فى تشكيل المجتمعات المستقبلية جوهر خطاب «ما بعد الإنسانية».
• الإنسانية المعززة (Transhumanism): على العكس من مفهوم «ما بعد الإنسانية»، تقوم حركة «الإنسانية المعززة» على تحسين القدرات البشرية من خلال التكنولوجيا والهندسة الحيوية والجينية، والتقنيات النانوية. ويركز هذا التوجه على تجاوز الحدود الطبيعية للإنسان والتغلب على القيود البيولوجية؛ بهدف تحقيق مستويات جديدة من الأداء البدنى، والمعرفى، وحتى النفسى؛ فهو يهدف إلى تعزيز نوعية الحياة الإنسانية وإطالة أمدها. ويستلهم هذا المفهوم من النزعة الإنسانية التقليدية، ولكنه يعيد تعريفها بما يتناسب مع إمكانات التكنولوجيا الحديثة.
فيزعم أنصار هذا التيار أن البشر سوف يتغيرون جذريا فى القرن القادم؛ من خلال عمليات الزرع والاختراق البيولوجى وتعزيز القدرات المعرفية، وغير ذلك من التقنيات الطبية الحيوية. وسوف تقودنا هذه التحسينات إلى «التطور» إلى نوع لا يتطابق تماماً مع ما نحن عليه الآن. ويؤكد راى كورزويل، كبير مهندسى جوجل، أن المعدل الهائل للتطور التكنولوجى سوف يجلب نهاية التاريخ البشرى كما عرفناه، وسيؤدى إلى ظهور طرق جديدة تماما للوجود لا يستطيع البشر العاديون مثلنا فهمها بعد.
ولعل أشهر الأمثلة على ذلك مفهوم «السايبورج»؛ إذ يسمح للأشخاص بالتغلب على العوائق والمشكلات البيولوجية باستخدام الأجهزة الذكية، فهو التطبيق الواقعى لفكرة دمج الإنسان والآلة لتحقيق ذلك، حيث يصبح الإنسان قادرا على الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعى والتكنولوجيا لتحسين وظائفه؛ مما يمهد الطريق لتحول البشر إلى كائنات ما بعد بشرية. وقد شهد العالم تطور «السايبورغ» مع حالة العالم البريطانى بيتر سكوت مورغان، الذى أصيب بمرض ضمور العضلات، وقرر الخضوع لعدد من العمليات المعقدة لزرع واستبدال أجهزته البيولوجية بأجهزة آلية تعمل بالذكاء الاصطناعى، وأعلن عن أول إنسان تحول بالكامل لـ«سايبورغ»، وأطلق على نفسه بيتر 2.0، وكانت من قبله حالة نيل هاربيسون، الذى تغلب على عمى الألوان بدمج جهاز إلكترونى مع مخه.
يعبر كلا المفهومين عن رؤيتين مختلفتين لمستقبل البشرية ودور التكنولوجيا. فـ«ما بعد الإنسانية» يدعو إلى تجاوز مركزية الإنسان لصالح رؤية شاملة ومتعددة الوكلاء. بينما «الإنسانية المعززة» يسعى إلى تعزيز هذه المركزية من خلال تحسين الإنسان باستخدام التكنولوجيا. كلا الإطارين يقدمان رؤى مبتكرة، لكنهما يثيران أيضا تساؤلات أخلاقية وفلسفية عميقة حول ما يعنيه أن تكون «إنسانا» فى المستقبل.
هالة الحفناوى
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص الأصلي