والآن ماذا بعد أن فاز السيسى برئاسة الجمهورية فى مشهد انتخابى عزف أكثر من نصف الناخبين عن المشاركة فيه وفق الإحصاء الرسمى، وغابت عنه المنافسة بغياب التعددية وإقصاء المعارضين واصطفاف إعلام الرأى الواحد والجيش والشرطة وراء ممثل المؤسسة العسكرية؟ أمن الممكن أن يستقيم أمر البلاد وتنعم بالاستقرار والديمقراطية والرخاء الاقتصادى والعدالة الاجتماعية بمواصلة ما شهدته البلاد منذ ذلك الوقت من عودة للدولة البوليسية واستعادة نخبة كبار رجال الأعمال الذين ساندوا نظام مبارك مواقعهم فى صدارة المشهد السياسى وبالاعتماد على الجيش الذى أفادت تصريحات السيسى بأنه سيقدم الحل لمشكلات مصر الاقتصادية والاجتماعية مثلما قدم الحل للأزمة السياسية فى 3 يوليو 2013؟
أمن المتصور عقلا أن يستقيم أمر مجتمع منقسم انقساما حادا إلى قسمين تحول الخلاف بينهما فى الرأى إلى كراهية وعداء؟ لقد عم الفرح والسرور القسم الذى أيد الإطاحة بالمسار الديمقراطى، ولم يحل دون ابتهاجه برئاسة السيسى دماء الآلاف التى أريقت وكأنها لم تكن دماء أخوة الوطن، ولا عذابات عشرات الآلاف الذين أصيبوا وسجنوا وانتهكت حقوقهم ولفقت لهم القضايا وصدرت بحقهم أحكام فى غاية القسوة وكأنهم ليسوا مصريين لهم من حقوق المواطنة مثل ما لمخالفيهم فى الرأى. وفى غمرة احتفالاتهم الراقصة تناسى القوم مطالب ثورة يناير التى زعموا أن حدث 30 يونيو ــ 3 يوليو هو المكمل لها، لاسيما مطالب القصاص لضحايا الثورة وتطهير الشرطة والقضاء وتفعيل العدالة الانتقالية واسترجاع الأموال المهربة. أما أهداف العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية فقد صارت مجرد كلمات تلوكها الألسن دونما برامج أو حتى نقاش جاد لكيفية تحقيقها. أما القسم الآخر فهو فى حزن مقيم جراء ما تعرض له من مذابح وملاحقات أمنية وأحكام قضائية غير مسبوقة فى تشددها، وجراء ما ناله من إقصاء ونفى من الساحة السياسية ومن اتهامات بالإرهاب والخيانة.
•••
وأى مستقبل للحرية فى مجتمع إذا تظاهر نصفه المؤيد لسلطة 3 يوليو فتحت أمامه الميادين وتمتع بحماية الجيش والشرطة، ولم يعترض الأمن على عرقلته لحركة السير ولا تعطيل أعمال المواطنين، وغطى الإعلام تظاهراته وكال له آيات المدح والثناء، ولكن عندما يتظاهر نصفه الآخر المعارض لما يعتبره انقلابا وعودة لحكم العسكر أغلقت أمامه الميادين وانهالت عليه قنابل الغاز وطلقات الخرطوش والرصاص، فيقتل بعض المتظاهرين ويسجن بعضهم ويلاحق الباقون؟ وهل يمكن أن يكون للأمل فى الحرية والديمقراطية والاستقرار أساس واقعى عندما لا تكتفى السلطة وإعلامها بإقصاء وتجريم فصيل سياسى هو الأقوى تنظيما والأوسع انتشارا، بل وتسعى لاجتثاثه وإبادته، وعندما لا تتورع عن توجيه الشتائم والاتهامات بالخيانة حتى لبعض من أيدوا أحداث 30 يونيو ــ 3 يوليو ولكن ساءهم توالى الإجراءات القمعية وانتهاكات حقوق الإنسان وهيمنة الإعلام المعادى لثقافة الاختلاف وحرية الرأى والتعبير والمروج لفكرة البطل المنقذ، ولم يرحبوا بترشح عسكرى للرئاسة؟
أمن الجائز منطقيا الاطمئنان إلى مستقبل ديمقراطى لمصر بعد ما أطاحت سلطة 3 يوليو بالدستور الذى وضعه من عينتهم فى لجنة الخمسين؟ لقد توالى صدور قوانين وممارسات تتصادم مع مواد هذا الدستور، نذكر منها القانون المقيد لحق التظاهر وقانون عدم الطعن من طرف ثالث على العقود التى تبرمها الحكومة وعودة مهام الحرس الجامعى إلى الداخلية والاتجاه لإلغاء اختيار القيادات الجامعية بالانتخاب واعتزام مراقبة وسائط الاتصال الإلكترونية وتجاوز كل ما كفله الدستور من حقوق لمن يقبض عليهم وتحول الحبس الاحتياطى إلى عقوبة بالتجديد المتكرر له وعدم تحمل برنامج تليفزيونى يسخر من الأحوال السياسية؛ وهو البرنامج الذى لم تمس حريته فى التعبير طوال سنة حكم مرسى بالرغم مما كان يحفل به أحيانا من إسفاف وتجاوزات أخلاقية.
وهل مما يبعث على الأمل فى حدوث تحول ديمقراطى أن تدعو سلطة 3 يوليو الشعب لانتخاب ممثليه فى مجلس النواب وفق قانون اجتمعت فيه مساوئ النظم الانتخابية كافة؟ أليس من الغريب أن السلطة الحاكمة لم تكترث باعتراضات الكثيرين ــ بمن فيهم أنصارها ــ على هذا القانون الذى يعيد ــ أو بالأحرى يكرس ــ هيمنة المال السياسى ومن ثم سيطرة رأس المال على الحكم، ويستدعى النوازع العائلية والقبلية ونفوذ العصبيات عند اختيار نواب الأمة، ويزيد مما تعانيه الأحزاب السياسية من ضعف؟
•••
وأى مستقبل للتنمية (العيش) والعدالة الاجتماعية وللحرية (وهى ركن رئيسى من أركان العدالة الاجتماعية) عندما تتهدد هذه الغايات كل المخاطر التى سلف ذكرها، وعندما يأتى الرئيس الجديد محمولا على أعناق المؤسسات المحلية وشبكة العلاقات الخارجية التى ارتكزت عليها دولة مبارك؟ ومن أبرز المؤسسات المحلية مؤسسات الجيش والأمن والقضاء التى لم تمتد إليها يد التغيير والإصلاح، ومؤسسة كبار الرأسماليين الذين يحرصون على المزاوجة بين الثروة والسلطة. أما شبكة العلاقات الخارجية فهى تتمثل فى دعم إقليمى من دول لا تقيم للديمقراطية أى وزن ولا تعرف لغة غير لغة المال الذى توظفه فى وأد الثورات واستتباع حكام الدول التى تسعى لاستجلاب معوناتها واستثماراتها. كما تتمثل فى دعم دول غربية تتحدث كثيرا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ولكنها مستعدة للتعامل مع أى حكم استبدادى ما دام يحافظ على مصالحها ومصالح إسرائيل، ولا يتمرد على ما يربطه بها من علاقات التبعية.
أمن الممكن أن يبدأ الطريق إلى الديمقراطية والاستقرار بمثل هذه الممارسات التى تتجاهل أهداف ثورة يناير، وبهذا الإصرار على التعامل مع الأزمة السياسية التى خلفتها أحداث 30 يونيو ــ 3 يوليو 2013 بالإجراءات الأمنية والأساليب القمعية؟ وماذا عن دروس التاريخ التى تؤكد فشل هذه الإجراءات والأساليب فى القضاء على المعارضة السياسية وفى اجتثاث حركات أو تنظيمات تغلغلت جذورها الفكرية فى أعماق التربة السياسية عبر عشرات السنين؟
•••
الحق أن الاستقرار لن تقوم له قائمة بالإقصاء والقمع والاستبداد واستمرار الظلم الاجتماعى، وأن أسس الاستقرار والديمقراطية لن تشيد بمجرد توالى تنفيذ الخطوات التى حددتها خريطة الطريق التى أعلنها من صار رئيسا للبلاد. فما قيمة دستور لم تشترك كل القوى السياسية فى صنعه، وبادرت السلطة بالخروج عليه بما أصدرته من تشريعات وبما تقوم به من ممارسات على ما سبق ذكره؟ وما قيمة انتخابات رئاسية أو نيابية مسبوقة ومصحوبة بإقصاء المعارضين وتجريم قطاع كبير منهم، ومسنودة بإعلام تفرغ فى مجمله للدفاع عن السلطة وتخوين المعارضين، وتمادى فى الضلال بإهانة وتخوين المواطنين الذين عزفوا عن التصويت فى الانتخابات الرئاسية، ضاربا عرض الحائط بكل المعايير المهنية والأخلاقية؟ إن هذه الخطوات والممارسات قد تنجح فى بناء ديكور ديمقراطى، ولكنها تعجز عن إنجاز مقرطة حقيقية للحكم والحياة السياسية.
إن الحل الناجع والقابل للاستدامة لأى أزمة سياسية هو الحل السياسى. وليس أسوأ من اللجوء إلى حل أمنى لمواجهة الأزمة السياسية الراهنة سوى إنكار وجودها وتجاهل ما بات واضحا جليا من معالمها. فالانقسام يزداد والاستقطاب يتعمق والخلاف السياسى تحول إلى عداء مقرون بالكراهية. إن الإخوان وحلفاءهم لم يستسلموا للهزيمة التى لحقت بهم منذ 3 يوليو بدليل أن تظاهراتهم لم تتوقف يوما بالرغم مما أصابهم ــ وما زال يصيبهم ــ من أعمال قتل وجرح واعتقال وتعذيب وملاحقات وأحكام جائرة. كما أن سلطة 3 يوليو 2013 ــ 8 يونيو 2014 لا تبدى أية نية للسماح بعودة الإخوان وحلفائهم للاندماج فى الحياة السياسية، وتصر على السير فى طريق تعميق الخصام والكراهية والعداء مع معارضيها حتى إذا كانوا ممن أيدوا إطاحة الجيش بحكم الإخوان.
ومن الواضح أن استمرار الاحتجاجات السياسية ــ فضلا عن الاحتجاجات الاجتماعية ــ واستمرار المواجهات العنيفة مع تظاهرات المعارضين تؤدى إلى حالة من عدم الاستقرار الذى يؤدى إلى غياب الأمن، وكلا الأمرين يعرقل جهود إنعاش الاقتصاد ويفاقم الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة مع الاستمرار فى تقليص الدور التنموى للدولة. وهو ما يضيف زخما جديدا لمصادر عدم الاستقرار، ويزيد من فرص وقوع العنف والعنف المضاد، ويجعل البلاد حبيسة حلقة مفرغة من العنف وعدم الاستقرار وافتقاد الأمن والانتقاص من هامش الديمقراطية الضيق أصلا.. ولا شك فى أن استمرار هذا الوضع ليس فى صالح السلطة لأنه يضعف من قدرتها على تنفيذ برامجها، وليس فى صالح الإخوان وغيرهم من المعارضين لأنه يحد من مشاركتهم فى الحياة السياسية. والسؤال الآن هو: أما من سبيل لكسر هذه الحلقة الخبيثة؟ والجواب المختصر هو أن ثمة سبيل، وهو الحل السياسى الذى يكفل دمج جميع القوى والتنظيمات فى الحياة السياسية ويتيح لها فرص العمل والتنافس فى أجواء ديمقراطية. ولكن هذا الحل يحتاج إلى تفصيل لمضمونه ولطريقة تنفيذه.