الظاهر من التصريحات الرسمية أن معظم الاستثمارات المتفق عليها أو المتفاهم مبدئيا بشأنها ــ بخلاف مشروعى محور قناة السويس والعاصمة الجديدة ــ تقع فى قطاعى البترول والغاز والعقارات. إن تدفق بعض الاستثمارات إلى قطاع البترول والغاز أمر متوقع لأنه من القطاعات التقليدية للاستثمار الأجنبى فى مصر، لأسباب دولية ولارتفاع العائد، وكذلك لقيام الحكومة أخيرا بسداد بعض المستحقات المتأخرة للشركات، فضلا عن أن مشروعاتها تباشر فى مناطق بعيدة عن التوترات الأمنية والسياسية. وكذلك الحال مع القطاع العقارى. فهو يحقق أرباحا ضخمة لأنه يركز على إسكان الأغنياء ومنتجعاتهم ومولات تسوقهم ومراكز الترفيه عنهم. وهذه الأرباح كفيلة بتعويض أى مخاطر قد يتعرض لها هذا الاستثمار لاسيما بعد ازدياد سخاء الحكومة فى منح المحفزات وتقديم التيسيرات.
ولكن ماذا عن الاستثمار الزراعى والصناعى؟ إن نصيبه قليل للغاية وتدخل مشروعاته فى باب مذكرات التفاهم وبروتوكولات التعاون غير المتيقن من قابليتها للتحول إلى مشروعات باتفاقات ملزمة. منها مذكرات تفاهم لاستصلاح وزراعة 1.2مليون فدان وللتصنيع الزراعى ولمشروعات للبتروكيماويات. وماذا عن مناطق توطن المشروعات؟ إن نصيب الصعيد منها ضئيل ونصيب سيناء منها صفر. ولا شك فى أن التوزيع القطاعى للاستثمارات المأمول فيها وتوزيعها الجغرافى يشير إلى خلل جسيم فى أولويات التنمية. كما أن طبيعة المشروعات تشير إلى أن أكبر المستفيدين منها هم الأغنياء وبعض الشرائح العليا للطبقة الوسطى، ولن يزيد نصيب ذوى الدخول المنخفضة والفقراء عن الفتات الذى يتساقط من موائد الأغنياء. ولذا فإن العدالة الاجتماعية التى طالبت بها ثورة يناير تعتبر من القضايا التى لم تنل ما تستحقه من اهتمام فى سياق المؤتمر. بل إن أوضاع العدالة الاجتماعية معرضة للمزيد من التدهور نتيجة لخلل الأولويات، ونتيجة للتعديلات الأخيرة فى نظام الدعم وفى قانون الضرائب وغيره من القوانين.
•••
فلنبدأ بخلل الأولويات. إن مشروعات استصلاح ملايين الأفدنة تطرح تساؤلات خطيرة بشأن تدبير المياة اللازمة لزراعتها، خاصة فى ظروف الندرة الحالية للمياه واحتمالات ازديادها مع تنفيذ سد النهضة. والمنطق السليم يقضى بتعليق مشروعات استصلاح الأراضى والتركيز على زيادة إنتاجية المحاصيل وترشيد الاستخدامات الحالية للمياه بتخفيض مساحات المحاصيل عالية الاستهلاك للمياه كقصب السكر والأرز والموز، أو تخفيض استهلاكها للمياه. ومفتاح هذه التحولات جميعا يكمن فى البحث العلمى والتطوير التكنولوجى. والمنطق السليم يقضى بالتركيز على التصنيع بمختلف أنواعه كمدخل لزيادة فرص العمل ورفع مستوى الدخول وزيادة الصادرات الصناعية لتمويل استيراد كمٍّ أكبر من المنتجات الزراعية والغذائية. ولكن إطلاق عملية كبرى لتصنيع مصر لا يمكن أن يترك لأهواء المستثمرين المحليين والأجانب، ولا يمكن أن تحكمه قاعدة أن أى استثمار مرحب به وأن الفقراء سيفيدون منه عندما يكون مربحا للمستثمرين. ولا غنى لهذه العملية عن دولة تنموية نشطة وقطاع عام قوى وتخطيط قومى شامل. وهى عناصر غائبة فى الوقت الحالى.
ويدخل ضمن خلل الأولويات التنفيذ المتسرع لمشروعات لم تدرس جيدا جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وأظن أن هذا ينطبق على مشروع قناة السويس الجديدة وعلى الكثير غيرها مما يسمى بالمشروعات القومية الكبرى، مثلما انطبق فى الماضى على مشروع توشكى. كما يدخل ضمن خلل الأولويات مشروع العاصمة الإدارية الجديدة الذى لا أرى له مبررا عمرانيا أو اقتصاديا أو تنمويا. وقد أفاض الناقدون للمشروع فى بيان مثالبه. وحسبى أن أذكر أن حل مشكلات العاصمة الحالية لا يكمن فى إنشاء عاصمة جديدة، وإنما يتمثل فى ثلاثة أمور: اللامركزية التى تنتقل بمقتضاها الكثير من صلاحيات الوزارات والهيئات المركزية إلى الأقاليم، ونقل بعض المصانع والجامعات أو أجزاء منها إلى المحافظات وبخاصة إلى المدن الجديدة القائمة التى تعانى فراغا سكانيا وعمرانيا كبيرا، وتركيز مشروعات التنمية الجديدة فى الأقاليم الطاردة للبشر.
•••
ونأتى الآن إلى التعديلات التشريعية التى قدمها النظام عربونا للمستثمرين القادمين للمؤتمر والتى تعيدنا إلى هوجة الانفتاح فى سبعينيات القرن الماضى. إنه لمن المفارقات أن نعود إلى زمن استباحة أراضى الدولة وتوزيعها وتمليكها بثمن بخس أو بالمجان بعدما مكنتنا ثورة يناير من استرجاع مساحات كبيرة من الأراضى من بعض من حصلوا عليها بثمن زهيد فى توشكى مثلا، أو تحصيل فروق أسعار كبيرة من بعض المستثمرين فى عدد من المناطق. ومن المفارقات أن يصبح أعلى سعر للضريبة التصاعدية 22.5%، وهو قريب من مستوى 20% الذى قررته دولة مبارك فى 2005، وذلك بعد أن كان قد وصل إلى 25% ثم إلى 30% فى العام الماضى بإضافة 5% أخرى كضريبة مؤقتة لمن يتجاوز دخله مليون جنيه. ومن المفارقات أن تتراجع حملات مكافحة الفساد عقب ثورة يناير بالتعديل التشريعى الذى حظر الطعن على العقود التى تبرمها الدولة مع أى طرف إلا من جانب طرفى العقد، وبمنح مجلس الوزراء سلطة منح مزايا كثيرة للشركات كثيفة الاستخدام للعمالة دون تحديد ضوابط لهذا الأمر، ما قد يفتح أبواب محاباة بعض الشركات أو تحايلها للحصول على هذه المزايا، وكذلك بالتوسع فى التعاقد مع القوات المسلحة على تنفيذ مشروعات كثيرة بالأمر المباشر.
حقيقة الأمر إذن أن المؤتمر بتركيزه على الاستثمار الأجنبى، وبما أفرط فى تقديمه من حوافز ضريبية وتيسيرات فى الحصول على الأراضى وغير ذلك، قد أطلق موجة انفتاحية جديدة تكرس الاعتماد على الخارج وتعمل على استدامة التبعية وتمعن فى محاباة الرأسماليين المحليين والأجانب، وتقوى الاتجاهات المضادة للعدالة الاجتماعية. وهذه هى الرسالة الحقيقية للمؤتمر. وإذا كان من المفهوم أن يهلل لهذه التوجهات رموز ما قبل 25 يناير 2013 والمنظمات المالية للرأسمالية العالمية، فمن الغريب أن يبتهج بمؤتمر هذا شأنه من عرف عنهم الدعوة لاستقلال الإرادة الوطنية والاعتماد على الذات والعدالة الاجتماعية، أو من أبدوا تحفظات غير هينة بشأن نتائج المؤتمر وتعديلات قوانين الشركات والاستثمار والضرائب على الدخل. ولا يمكن تعليل هذا الموقف بوقوع هؤلاء وأولئك ــ كالكثيرين من عامة الشعب ــ ضحايا لحملات غسيل المخ التى صورت الأمور على غير حقيقتها، وجعلت آمال الناس فى الخروج من التخلف تتعلق بحل يأتى من الخارج. والراجح أن هذا الفريق من المنبهرين بالمؤتمر ونتائجه كان مدفوعا بمنطق أنصر من خلصك من الإخوان ظالما كان أو مظلوما.
•••
لقد جربت مصر السياسات الانفتاحية وثبت فشلها فى إخراج البلاد من تخلفها وتبعيتها. وقد وثقت هذا الفشل وأسبابه فى كتابى: الاقتصاد المصرى فى ثلاثين عاما. وكانت النتائج السلبية لهذه السياسات سببا من الأسباب الجوهرية لثورة يناير. وقد أضاف النظام الحالى لهذه السياسات عناصر جديدة تزيد من الفساد والظلم الاجتماعى. والحق أن مصر لن تشهد انطلاقة تنموية حقيقية إلا بأمرين. أولهما استتباب الأمن وإنهاء الإقصاء وتحقيق المصالحة المجتمعية. وثانيهما انتهاج سياسات اقتصادية وتنموية جديدة تقوم على مبدأ الاعتماد على الذات فى المقام الأول، وتضع العدالة الاجتماعية والمشاركة الديمقراطية فى رأس أولوياتها.