أما بعد، فها هو الصيف يعود، مذكرا بأن للشمس والدفء سحرا، على الأقل من خلف زجاج الشباك فى الصباح. أنظر إلى الزرع فى منزلى ويتهيأ لى أنه يضحك. ازدادت الأوراق بهجة وامتدت باتجاه الشباك. الصيف وانتهاء العام الدراسى والعدول عن صرامة المواعيد قليلا فى النوم والاستيقاظ. الصيف وفرد السجاد على الشرفة قبل أن يختفى حتى دخول الخريف والمدارس. الصيف وصوت الأمهات فى الخلفية يعددن المناسبات المزمع عقدها كحفلات الخطوبة والأعراس والخروج فى نزهة إلى البساتين. المحظوظات منهن يخططن لإجازة تأخذهن وعائلاتهن خارج بيوتهن لمدد متفاوتة، قد تكون إلى البحر أو الجبل أو خارج الحدود.
•••
الصيف وبعض الاسترخاء وقراءة الروايات التى وضعتها جانبا خلال السنة. الصيف وحكايات عن شواطئ وقصص الغرام، بعضها حقيقى وبعضها من وحى الخيال. الصيف وإيقاع بطىء يناسب ارتفاع الحرارة ويفرض سقفا للتوقعات يرأف بمن يستصعبون درجات الحرارة.
•••
أظن أن فكرتى عن الصيف قديمة ورومانسية. أظن أن قليلين هم من ما زالوا يخططون للصيف وكأنه وقت مقتطع خارج العام فى الزمان والمكان. أظن أنه صار من الصعب لأسباب كثيرة أن تنتقل أسرة من بيتها إلى مكان أوسع وأكثر براحا وتغيير إيقاعها اليومى تماما لعدة أسابيع كما قرأت فى روايات إحسان عبدالقدوس أو كما سمعت من أصدقاء.
•••
الصيف هو تذكير أننى كبرت عاما، إذ لطالما حسبت تقدمى بالعمر تماشيا مع تقدمى فى المدرسة، وها أنا اليوم أحسب عمر أولادى بالطريقة ذاتها وأعد السنوات التى تفصلهم عن تخرجهم من الفصل ومن الطفولة. اليوم مع شبكات التواصل الاجتماعى الصيف هو أن أقرب وجهى من الشاشة لأرى وجوه صديقات فرقت بيننا السنوات والمسافات وفى كثير من الأحيان السياسة، فأحاول أن ألتقط من خلال تعابيرهن أين أخذت بهن الحياة. أعترف أننى ما زلت أحب الأخبار وقصصا أسمعها عن فلان وفلانة وغيرهما. أنظر فى الصور وأدرك أنها قد تكون خداعة لكنها تذكرنى أن تغييرات مهولة ضربت بكثير مما كنت أعرفه فى السنوات العشر الماضية وغيرت حياتى وحياة الكثيرين.
•••
يتسارع إيقاع الصور على الفضاء الأزرق فى الصيف، يصبح الإيقاع الافتراضى أسرع من إيقاع الحياة، وأتابع بكثير من الشوق أخبارا عن مناسبات اجتماعية وأشتاق لجلسات الثرثرة مع ناس لا أعرف اليوم أين هم. يقال إن فصل الخريف هو فصل الحنين لكنى أحن فى الصيف إلى مساء خانق تجلس فيه أمى فى حديقة البيت وهى تقول «الجو حابس اليوم» أى أن لا نسمة تحرك فيه ورق الشجر. تفتح صديقاتها مراوح يدوية تحتفظ كل منهن بالمروحة خاصتها فى شنطة يديها ويكملن الحديث. أشتاق إلى شمس العصر فى بيتنا هناك حين تسدل أمى كل الستائر لتحافظ على بعض البرودة فى الداخل بينما أعترض أنا على فكرة حجب نور الشمس.
•••
لكن أكثر ما أشتاق إليه فى الصيف هو اللون البرتقالى الذى يطغى على مطبخنا وشرفتنا وشرفة كل من حولنا فى الشارع فى موسم صنع مربى المشمش. صيف دمشق هو موسم مربى المشمش وتنافس الجارات والقريبات فى العائلة فى صنعه وإرسال عبوات بين البيوت. فى ذاكرتى الحسية هنالك رائحة سكرية نفاذة توقظنى فى صباح صيفى أسمع فيه إرشادات تعطيها أمى عبر الهاتف. أدخل إلى المطبخ فأجد المشمش مفرودا على كل المساحات المسطحة: هنا الحبة كاملة، ثم فى القسم التالى الفاكهة مقسومة والبذور فى تلة قربها (لاستخراج اللوز منها فيما بعد). هنا أنصاف المشمش منقوعة فى أوان عملاقة مع السكر فقط. على النار، و«لغلوة واحدة فقط، إياكم أن تغلوها أكثر» يأخذ المشمش أول صفعة حرارية، قبل أن ينتقل إلى أوان أخرى مسطحة وغير عميقة سوف يبقى فيها فى الشمس لمدة أيام حتى ينضج.
•••
للمشمش طقوس صارمة، كأن تأتينا صناديق الفاكهة كهدية من أصدقاء أو أقارب بعد قطفها من بساتين الغوطة. حتى أننى اليوم، حتى فى بعدى عن دمشق، لا أقوى على شراء الفاكهة التى أريد أن أصنع منها المربى، فهذه يجب أن تصلنى كهدية، وهل انقطع الخير من حولى؟ يغرف المربى بعد عملية طهيه القصيرة جدا فى صوان تغطيها أمى بقطع القماش الأبيض الخفيف لتحميه من الذباب ريثما «ينعقد» السكر تحت الشمس. تحكم وضع القماشة بملاقط الغسيل على أطراف الصينية الأربعة.
•••
يعرف كل من زار دمشق منظر الصوانى المفرودة على شرفات البيوت وفى حدائقها، وكأن الصيف فى الشام هو مربى المشمش. هذه نسختى من الصيف، رائحة المربى مقابل منظر البحر، التصاق السكر بأصابعى حين أدسها دون علم أمى فى الطبق مقابل ملمس الرمل. صيف شمسه الحارقة تعطى لمربى المشمش لونه الساحر كما تعطيه للأجساد على الشاطئ. شاطئى الصيفى لونه برتقالى ومساءاته سكرية فيها الكثير من الثرثرة والأخبار وصوت راديو يأتينى من على شرفة جيرانى فأسمع الأغانى القديمة والجديدة حسب ساعات النهار.
•••
هكذا إذا يأتى الصيف من جديد لأكتشف مرة أخرى أننى أكبر وأبعد عن شرفات مدينة كانت تتحول لمدينة المشمش تحت الشمس.
كاتبة سورية