اعتبرت التنمية المهنية المستدامة من أهم العناصر التى أبرزتها ورقة عمل سياسات تطوير كليات التربية (مايو 2016) والتى كانت النواة الأولى للنموذج الاسترشادى المقترح لتطوير كليات التربية الذى قدم من قبل لجنة التخطيط المنبثقة من لجنة قطاع الدراسات التربوية فى المجلس الأعلى للجامعات (إبريل 2018). ويعتبر هذا النموذج الاسترشادى الخطوة الملهمة الأولى لكثير من الإصلاحات على أرض الواقع فى العديد من البرامج التى تقدمها كليات التربية فى مصر.
الجامعة هى من أهم محطات التنمية المهنية للمعلم وتشكل عنصرا فاعلا فى تحقيق التعلم مدى الحياة للمعلمين. ويشير مفهوم التنمية المهنية المستدامة إلى عملية التعلم لكل من يعمل بقطاع التعليم ويرغب فى تحسين أدائه وخبراته فى مهنته مدى الحياة وبشكل منتظم ودائم.
تؤكد الخبرة العالمية ونواتج الدراسات العلمية أن من أفضل طرق تحقيق التنمية المهنية المستدامة هى تفعيل التعلم داخل المؤسسة التى يعمل بها المعلم، وأبرزت الخبرات والدراسات أن من الاستراتيجيات الناجحة فى أدبيات التطوير هى بناء شراكة بين الجامعة والمدرسة لضمان التطوير المزدوج للمؤسستين وللتقارب بين النظرية والممارسة. ويُفعل هذا التطوير والتبادل المثمر بين الجامعة والمدرسة من خلال عدد من الممارسات من أهمها: بناء شراكة مؤسسية بين الجامعة والمدرسة؛ تكوين مجتمعات تعلم بين الأقران فى كل مؤسسة على حدة وبين المؤسستين معا؛ ممارسة الإرشاد التربوى كأسلوب ديمقراطى تعاونى وإنسانى للتطوير المهنى؛ دعم وتشجيع التعلم ذاتى التوجه والتفكر والتأمل؛ القيام ببحوث الفعل بشكل جماعى وفردى بدعم من الجامعة؛ القيام بدراسة الدرس والتدريس على مستوى المدرسة؛ تحويل عدد من المدارس النظامية إلى مدارس مهنية تمارس كل ما سبق ذكره بالإضافة إلى تطوير التربية العملية الميدانية حيث يتم تأهيل طلاب الكليات على التدريس العملى داخل هذه المدارس وتقدم هذه المدارس أفضل النماذج للتنمية المهنية المستدامة وللأبحاث التربوية بالاشتراك مع الجامعة.
الشراكة بين الجامعة والمدرسة
تطورت فكرة الشراكة عبر العقود واتخذت أشكالا مختلفة. ففى البداية كانت تجربة «جون دووى» فى القرن الماضى عندما أنشأ مدرسة تجريبية أو معمل دراسى فى جامعة شيكاجو على نطاق محدود ثم تطور المفهوم فى الثمانينيات ليشمل فكرة تبنى مدارس حكومية قائمة من قبل بعض كليات التربية. أما فى التسعينات من القرن الماضى قامت مجموعة هولمز بتجربة بارزة والتى نبع منها نموذج المدارس المهنية. وهدفت هذه المدارس إلى إعداد المعلم المتدرب قبل الخدمة وكذلك تطوير المعلم أثناء الخدمة مما أسفر عن تطوير مزدوج داخل الجامعة والمدرسة. ومن خصائص المدارس المهنية تفعيل مجتمعات التعلم بتلك التجمعات من الأقران من معلمين وتربويين ومهنيين يوطدون علاقتهم ببعض وينمون لديهم الشعور بالاحترام والثقة المتبادلة من أجل وضع برنامج مشترك للتنمية والتطوير عبر اجتماعات تفاعلية منتظمة.
اعتنقت بعض البلدان الغربية شكل من أشكال الشراكة بين الجامعة والمدرسة وانتشر النموذج أيضا فى عدد من البلدان العربية وكانت مصر أولى البلاد التى بادرت بتبنى نموذج «دووى» أى المدارس التجريبية التى أسسها اسماعيل القبانى فى القرن الماضى. أما نموذج المدرسة المهنية فقامت أول تجربة من خلال مشروع مصرى أوروبى فى عام 2016 ــ 2017 تحت عنوان مشروع الشراكة بين المدارس والجامعة لبناء مجتمعات الأقران من المتعلمين وقد تم توقيع اتفاقية تعاون بين وزارة التعليم العالى والبحث العلمى ووزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى ومعهد الشرق الأوسط للتعليم العالى بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وهى الجهة المنسقة للمشروع، فى عام 2017 لتفعيل الشراكة بين ثلاث كليات تربية هم الإسكندرية وحلوان وعين شمس و45 مدرسة حكومية بالاشتراك مع أربع جامعات أوروبية من بريطانيا وألمانيا وأيرلندا. وحددت اتفاقية التعاون المعايير الخاصة بانتقاء المدارس المشاركة بالشكل الآتى: أن تكون مدارس حكومية عامة؛ أن تكون مدارس مجاورة للكليات؛ أن يكون لدى هذه المدارس وحدات تدريب وضمان الجودة؛ أن يكون لدى هذه المدارس الرغبة فى المشاركة؛ أن تتمتع هذه المدارس ببنية تحتية للتكنولوجيا تمكنها من مواكبة الحديث والاستفادة من التنمية المهنية التكنولوجية.
ولقد تم إنشاء توءمة بين الكليات الأوروبية والمصرية وبناء فرق بحثية استطاعوا إنتاج ست مطبوعات تحتوى على دراسات الحالة التى ترصد تجربة المشاركين فى المشروع وتقييم الأثر على المستوى الشخصى والمهنى والمؤسسى. وأفرزت هذه الدراسات نتائج إيجابية حول التجربة تتلخص فى اعتناق المؤسسات المشاركة استراتيجيات مبتكرة فى التدريس والبحث العلمى كذلك اعتناق عادات عقلية حديثة وحميدة إلى جانب اكتساب العاملين بهذه المؤسسات مهارات حياتية ومهارات القرن الحادى والعشرين وخاصة فى استخدام التكنولوجيا لأغراض التعلم.
الاستمرارية
أثبتت التجربة فى مصر أن مدخل الشراكة بين الجامعة والمدرسة وتطوير المدارس المهنية استثمار واعد فى تطوير أداء المعلمين فى مدارسهم وكذلك أداء التربويين فى كليتهم ولذا كان علينا وضع رؤية للتوسع والاستدامة حول هذا المدخل بالاشتراك مع صناع السياسات من: رئيس الجمهورية؛ ووزارة التربية والتعليم والتعليم الفني؛ ووزارة التعليم العالى والبحث العلمي؛ والهيئة القومية لضمان الجودة والاعتماد.
أولا، الهيكل التنظيمى. وجود كيان مؤسسى تحت رئاسة مجلس الوزراء منوط بضمان الشراكة بين الجامعة والمدرسة ووزارتى التربية والتعليم والتعليم الفنى ووزارة التعليم العالى لضمان التخطيط والتقويم والمتابعة لهذه الشراكة وإزالة جميع المعوقات. ويقوم هذا الكيان أيضا بربط مخرجات التربية والتعليم ومدخلات الجامعة.
ثانيا، القوانين. إصدار قرار جمهورى بإلزام كليات التربية بالقيام بدورهم تجاه المدارس ومعلميها وذلك بضم بعض مدارس التعليم العام إلى كليات التربية لتصبح «مدارس مهنية».
ثالثا، السياسات واللوائح. إيجاد سياسات ولوائح تحفز العمل على تطوير هذه الشراكة من خلال إلزام الكليات والمدارس على تكوين مجتمعات تعلم واعتبار كل الأنشطة ذات صلة بالشراكة بين المدرسة والجامعة بمثابة ساعات عمل رسمية تؤخذ بعين الاعتبار عند توزيع أعباء هيئة التدريس وعند تقييم المتقدمين للترقيات من أساتذة ومعلمين ومنح المعلمين ساعات منتظمة للتنمية المهنية المستدامة ضمن أيام العمل وأخيرا جعل إلحاق تكوين مجتمعات التعلم فى إطار الشراكة بين الجامعة والمدرسة شرطا أساسيا لاعتماد برامجها.
أستاذ بالجامعة الأمريكية ومدير معهد الشرق الأوسط للتعليم العالى