يتضح من دراسة حركة التطوير العالمية فى إعداد المعلمين أن هناك اتفاقا على نقل مهمة الإعداد من المعاهد والمؤسسات المتخصصة الصغيرة إلى الجامعات. فمهمة إعداد القائمين على مهنة التعليم والتدريس تطلب إعدادا واسع النطاق وعميق الأثر عبر سنوات الدراسة الجامعية. واتجه التطوير أيضا إلى ترسيخ عدد من الموضوعات والإمساك بالتوجهات والمسلَّمات الحديثة الآتية: أهمية التقريب بين النظرية والممارسة والتطبيق، الاهتمام بالتناول التربوى المتكامل عبر دراسات بينية Interdisciplinary ونهج شمولى، الاهتمام بالتجارب الميدانية والعملية كمدخل واقعى للإعداد مما يتطلب التعرض للتدريب الميدانى داخل المدارس مبكرا فى السنوات الأولى من الإعداد فى الكليات والجامعات، الاعتماد على وسائل مستحدثة من الإعداد مثل اللجوء إلى وحدات أو دورات قصيرة للبرامج Modular Approach
مقابل المقررات التقليدية الطويلة، الاهتمام الواضح بالنواحى الوجدانية والقيمية فى الإعداد وكذلك الجوانب الروحية والأخلاقية، ويندرج تحت هذا المجال تكوين الهوية المهنية لدى المعلمين، الاعتماد على التكنولوجيا فى الإعداد وخاصة الوسائل الحديثة فى التسجيل المرئى والصوتى للتجارب الميدانية كوسيلة هامة لتحليل وتقويم أداءات المعلمين، الاهتمام القوى بالتقييم سواء كان التقييم الذاتى عبر وسائل التفكر والتأمل أو التقييم بين الأقران، التقييم من أجل التعليم وكيفية استخدام ملفات الإنجاز لدى المعلمين، وهناك توجه صريح فى سبل الإعداد نحو عادات العقل والإدراك Cognition and MetaــCognition ونظريات الدماغ ومعرفة كيف يفكر المرء وكيف يستطيع أن يلاحظ ويدرك العمليات العقلية التى يمر بها، ويندرج تحت هذا المجال البحث والتقصى وربط نواتج البحوث بطرق التدريس وقيادة عملية التعلم والتعليم داخل الصفوف الدراسية. كما يندرج تحت هذا المجال عمليات التفكر Reflection أثناء الأداء وبعده، وأخيرا هناك إجماع على أهمية دور الإعداد فى تأهيل معلم المستقبل على التفاعل مع التنوع والتفرد وقضايا العدالة والعدل والدمج والمواطنة.
***
وإذ نؤكد على أهمية وضع مواصفات هذا الخريج الجامعى كنقطة البداية للتطوير (انظر المقال الأول من السلسلة)، فهناك أربعة مستويات لتطوير كليات التربية داخل الجامعة. وقد تندرج هذه المداخل للتطوير من الأعلى إلى الأسفل، أى من تطوير مركزى فوقى إلى تطوير لا مركزى نابع من أعضاء هيئة التدريس، أى من معلم المعلم وقد أميل شخصيا للمدخل الأخير من التطوير.
وبالنسبة للمستويات الأربعة للتطوير فقد تتمثل فى: أولا: إعادة هيكلة الجامعة والبرامج الخاصة بكليات التربية، ثانيا: إضافة بعض البرامج المستحدثة على الهيكل القائم، ثالثا: إعادة النظر فى المقررات المقدمة، وأخيرا: إعادة النظر فى بناء المقررات القائمة داخليا باستحداث طرق التناول وتقديم المادة. بالنسبة للمستوى الأول والمعنى بإعادة النظر الشاملة فى هيكلية الجامعة والبرامج فيتطلب سياسات ثورية وجذرية وتغير شامل ليس فقط فى اللوائح ولكن فى التشريعات أيضا. وقد اتجهت دول عديدة نحو هياكل متنوعة كثيرة بدءا بجامعات كاملة مخصصة للعلوم التربوية وصولا إلى أشكال متنوعة من التنسيق بين كليات التربية والكليات الأخرى داخل الجامعة، وهنا قدمت فنلندا فقط ثلاثة خيارات وإن كانت جامعة هلسينكى اتبعت أحد هذه الخيارات أى المدخل المندمج Integrated Approach لهيكلة الدراسات التربوية ويتلخص هذا المدخل فى دمج مدخلى الدراسة التكاملية والتتابعية فى أن واحد وكل وفق المرحلة التى يبغى الملتحق فى الجامعة التخصص فيها. فمعلم الصف فى المراحل الأولى من التعليم يتم إعداده عبر برنامج مدمج يهتم أكثر بالنواحى البيداجوجية ونمو الطفل فى الإعداد مع ساعات أقل فى مواد التخصص أما طالب المراحل الإعدادية والثانوية فيتم إعداده بساعات مضاعفة فى مواد التخصص من خلال كليات العلوم والآداب وساعات أقل فى المواد البيداجوجية وطرق التدريس. وتقوم كلية التربية بالتنسيق مع الكليات الأخرى فى إعداد طلابها وتضيف كلية التربية برامج أخرى لتدريب المعلمين أثناء الخدمة وتعتمد كل برامجها اعتمادا كليا على البحث والتقصى والتجريب والوجود الميدانى.
***
وبالنسبة للمستوى الثانى للتطوير فيهتم بإضافة برامج جديدة تلبى الاحتياجات الاجتماعية والتربوية المستحدثة فى سياق وطنى محدد. فقد يتم ذلك من خلال إضافة برامج أو دبلومات Diplomas تتناول قضايا التكامل بين المواد مثل STEAM أى التكامل والدمج بين العلوم والتكنولوجيا والهندسة والآداب والرياضيات أو بناء برنامج وشهادة خاصة بتخريج مرشد ومعاون تربوى Mentor. وهناك برامج عديدة من هذا النوع فى كثير من الدول الغربية وكذلك العربية وأخص هنا لبنان والتى قدمت بعض كلياتها برامج متطورة ومتميزة جدا حول إعداد المرشدين التربويين والمعاونين وكذلك إعداد نظار ومديرى المدارس والقيادة التربوية ويشترط على تعيين ناظر أو مدير مدرسة أن يكون قد التحق بهذه البرامج، والعديد من الدول أدخلت برامج خاصة بالطفولة المبكرة ومرحلة النمو قبل المرحلة الابتدائية. وهذا النوع من التطوير فى مصر يتطلب إعادة النظر فى لوائح الكليات وموافقة القطاع التربوى على هذا التغيير. وبالنسبة للمستوى الثالث من التطوير فهو أيضا يتطلب موافقة لجنة القطاع التربوى فى المجلس الأعلى للجامعات وهو تطوير ينطوى على إعادة النظر فى محتوى البرامج وإضافة أو حذف مقررات كاملة بعدد ساعات ملائمة. وقد تتوجه الكليات لتغيير المقررات وفق الاحتياجات التى تمليها مواصفات الخريج وكذلك وفق ما يدور حولنا من تطورات عالمية. فبالنظر إلى أهم التوجهات العالمية فى أى كلية تربية فى حوالى سبع دول (أستراليا – فرنسا – كندا – المملكة المتحدة – الولايات المتحدة المريكية – اليابان – الهند) يتبين أن هناك قواسم مشتركة واهتمامات متزايدة ببعض المقررات المعنية ببناء الإنسان وهوية المعلم المهنى. فعلى سبيل المثال اهتمت كندا وأستراليا بتقديم مقررات حول المعلم المتفكر المتأمل وبناء هوية المعلم، والمعلم كمتعلم، والمعلم كمهنى، واحتراف التعلم ومعرفة الذات كمعلم. واهتمت باقى الدول بتقديم مقررات متنوعة حول التقييم والتقييم من أجل التعلم Assessment for Learning. كما اهتمت بتقديم مقررات حول البحث والتدريس وبحوث الفعل. اهتمت اليابان وعدد من الدول بتقديم برامج حول الأخلاق والتعامل الاجتماعى وبناء مجتمعات المعرفة والعمل الجماعى فى التدريس والقيادة التربوية، ومعرفة خبايا العقل البشرى والسلوك الإنسانى. وجميع الدول تقدم مقررات متعددة حول استخدام التكنولوجيا فى التعليم وتعلم اللغات الأجنبية.
***
وأخيرا فيما يخص المستوى الرابع من التطوير فذلك المستوى يتطلب تحولا عميقا لدى أساتذة كليات التربية ومعلمى المعلمين ولا يتطلب تغييرات فى اللوائح أو التشريعات فقط بل يعتمد على مقدرة أعضاء هيئة التدريس على مواكبة ما يدور من حولهم على المستوى العالمى والإقليمى والمحلى وأن يمارسوا التفكر والتأمل فى أدائهم والدخول فى حوارات علمية مع أقرانهم على المستوى المحلى والعالمى داخل مجتمعات تعلمية تتكون طوعيا ويكون الهدف منها تطوير الأداء وتقديم أفضل ما لديهم من أفكار وابتكارات داخل مقرراتهم، فقد يحتوى هذا النوع من التغيير والتحول على إدخال عنصر التأمل والتفكر والبحث داخل مقرراتهم أو حث الطلاب على تقديم مشروعات جماعية أو تشجيع وتحفيز الطلاب على القيام بأعمال ميدانية داخل المدارس لتطبيق النظريات على أرض الواقع، أو القيام ببعض الرحلات للتعارف عى مزايا التعلم خارج الصف Outdoor Learning أو إدخال التكنولوجيا أثناء تدريس محتوى المقرر سواء كان من خلال استخدام التواصل الاجتماعى ــ التسجيل والتصوير ــ أو حتى استخدام الألعاب الرقمية بهدف ترسيخ سلوك أو عادات وقد يتم التغيير فى التقديم من خلال تحويل طرح المادة الدراسية فى شكل كتابة تأملات بعد إجراء عدد من البؤر النقاشية بين مجموعات صغيرة منبثقة من العدد الكبير فى الدفعة الواحدة. وهناك أفكار كثيرة جدا تعتمد على تقسيم الطلاب إلى مجموعات وتكليفهم بمهام جذابة ومبتكرة تساعدهم على التعلم والوصول إلى الهدف من المقررات.. وفى رأيى الشخصى أن هذا النوع من التطوير الذى ينبع من المبادرة الطوعية والشخصية لدى مجموعات من أساتذة كليات التربية قد يكون أفضل نواة للتحديث والتطوير الشامل، ويؤكد أيضا على استقلالية معلم المعلم والمساحة الواسعة أمامه للابتكار والتجويد عند اعتماده عادات عقلية ووجدانية إيجابية وبناءة.