ستة أشهر للدستور - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 2:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ستة أشهر للدستور

نشر فى : الجمعة 17 فبراير 2012 - 9:05 ص | آخر تحديث : الجمعة 17 فبراير 2012 - 9:05 ص

أسباب الإصرار على أن تسبق انتخابات الرئاسة صياغة الدستور تتجاوز وجوب الالتزام الديمقراطى (التعديلات الدستورية المقرة فى استفتاء مارس الماضى، والإعلان الدستورى الناتج عنها، يجعلان الانتخابات قبل الدستور)، وخطورة وجود العسكر فى السلطة عند إقرار الدستور (إطالة بقاء العسكر فى السلطة تعنى استمرار نزيف الدماء، والفشل الاقتصادى والأمنى، وتتيح لهم فرصة دسترة سيادتهم)، إلى الحاجة لتوفير مساحة زمنية لحوار مجتمعى وسياسى عن بنية الدستور ومقاصده الرئيسية.

 

فخارطة الطريق التى أعلن عنها المجلس العسكرى فى نوفمبر الماضى تفرض على الجمعية التأسيسية صياغة دستور خلال أسابيع معدودة، وقبول بعض القوى السياسية بهذا السيناريو دفعها للبدء فى إعداد مشروعات للدستور ترتكز جميعا على دستور 1971 وتكتفى بإدخال بعض التعديلات عليه، بغير مراجعة لفسلفته وبنيته، لأن ضغط الوقت لا يسمح بذلك.

 

وبناء على ما سبق، فقد تناولت جل التعديلات سلطات رئيس الجمهورية، والتى كانت مطلقة غير مصحوبة بوسائل مراقبة، حتى صارت من المستحيلات مساءلة المسئول الحقيقى الوحيد فى مصر، بتعبير المستشار البشرى، ودارت مقترحات التعديلات فى فلك تحويل النظام المصرى من الرئاسى (الذى تزيد فيه سلطات الرئيس فتنقله لدرجة الفرعون) إلى النظام المختلط (الذى يتقاسم فيه الرئيس والبرلمان السلطة التنفيذية)، وانحصر الخلاف بين المشروعات المقدمة فى تفاصيل غير مركزية.

 

وجاءت قضايا التوجه الاقتصادى والاجتماعى فى المرتبة الثانية من حيث الاهتمام، وكانت التعديلات التى أدخلت على الدستور فى 2007 قد قوضت الأسس الدستورية لمسئولية الدولة الاجتماعية، واستبدلت نصوص حماية السوق والملكية بنصوص التضامن الاجتماعى، وجل التعديلات المقترحة فى هذا الباب ترمى لتخفيف حدة الانحياز الاقتصادى، مع بعض الإشارات للمسئولية الاجتماعية للدولة فى نصوص مجملة، كتلك التى عاشت فى الدستور عقودا من غير تفعيل.

 

وأما النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات العامة ــ والمتضمنة فى الباب الثالث من الدستور ــ فقد أبقتها أكثر المقترحات بلا تعديل، شأنها شأن بابى الدستور الأولين، وبابه الرابع، قبولا لما فيها من مبادئ عامة، وإدراكا لاحتياج تعديلها لنقاش حول المقاصد والصياغات والآليات لن يسمح به الإطار الزمنى المضغوط.

 

ومجمل هذه التعديلات ينتج نموذجا معدلا وأقل استبدادا من دستور 1971، لا دستور ثورة يتناسب والتضحيات التى قدمت فيها والآمال المعلقة عليها، إذ لا تتناول التعديلات إلا يسيرا من مشكلات الدستور الهيكلية، والتى أولها الاكتفاء بنصوص مجملة عامة، ومشكلة هذه المواد أن عموميتها تعجزها عن معالجة القضايا المجتمعية الحالة، ودلالاتها شديدة الاتساع تفقدها المعنى، بحيث يمكن استغلالها لتبرير الشىء ونقيضه، كالمادة 38 الناصة على قيام النظام الضريبى على العدالة الاجتماعية، والذى استندت إليه قوانين الضرائب التصاعدية ثم استند إليه قانون الضريبة الموحدة.

 

وتتفرع عن ذلك المشكلة الهيكلية الثانية، وهى كثرة الإحالة للقوانين لتقرير ضوابط النص الدستورى وحدود عمله لا آلياته التطبيقية فحسب، وهو ما من شأنه تحويل الأغلبية البرلمانية عمليا إلى جهة مفسرة للدستور ــ كونها تسن التشريعات المعرفة لمراد النص الدستورى ــ بدلا من أن تنضبط بضوابطه، وهو ما يسمح لأى أغلبية برلمانية ــ من الناحية النظرية على الأقل ــ بأن تقضى ضمانات الحقوق ومقومات المجتمع وسيادة القانون، وتكرس لوضع استبدادى تجعله الثورة مستحيلا على المدى القريب، غير أن إبقاء هذا الباب مفتوحا يسمح به على المدى الأبعد، ومن جملة القضايا التى أبقاها الدستور أسيرة لإرادة أغلبية البرلمان القواعد المنظمة للجنسية المصرية (مادة 6)، والكثير مما يتعلق بالحفاظ على مقومات المجتمع والحقوق الاجتماعية والسياسية وحدود العلاقة بين حريات الفرد وقيم المجتمع فى البابين الثانى والثالث، والتوسع فى الإحالة للقوانين فى هذين البابين فتح بابا واسعا لأهدار الحقوق على النحو الذى عاشته مصر خلال العقود الماضية وحتى قيام الثورة.

 

وأما المشكلة الهيكلية الثالثة فى الدستور فهى أن جل مبادئه بقيت غير مصحوبة بآليات تنفيذية، وهو ما أدى لعزل الدستور عن الواقع السياسى، بحيث لم تعد المبادئ المتضمنة فيه مؤثرة فى القرار إلا فى أحوال نادرة، فاعتبار الشعب «جزءا من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة» (مادة 1) لم يكن مؤثرا فى توجهات السياسة الخارجية ولم يمنع النظام من المشاركة فى حصار غزة، والتوكيد على كون «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها ويصون الوحدة الوطنية» (مادة 3) لم ينطبع فى الواقع العملى بحيث تعبر مؤسسات الدولة المختلفة عن الإرادة السياسية لمجموع الجماعة الوطنية.

 

كما أن المساواة أمام القانون بقطع النظر عن الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة الذى تكفله المادة 40 لم تمنع من ممارسة أشكال التمييز المختلفة، وقد أضاف الواقع العلمى إلى أشكال التمييز تمييزا بسبب الزى والخلفية الاجتماعية والاقتصادية، والنص على أن القوات المسلحة «ملك الشعب» (مادة 180) لم يمنعها خلال العقود الماضية فى فرض سيادة موازية لسيادته، بما ينقض اعتبارها مملوكة له.

 

ودساتير ما بعد التحولات الكبرى المصوغة فى العقود الثلاثة الأخيرة بنيت على هياكل مختلفة تحاول علاج هذه المشكلات، فقد هجرت النصوص المجملة العامة إلى نصوص أكثر تفصيلية، خاصة فيما يتعلق بالحقوق والحريات المفصلية للمواطنين، والقضايا محل الاتفاق الوطنى والتى أوجدت المشكلات الرئيسة فيها الحاجة للتخلص من الدساتير القائمة وصياغة دساتير جديدة، كما تقل فى هذه الدساتير عامة الإحالة للقوانين، ويقتصر ما يوجد من ذلك على الآليات التنفيذية للدستور فى إطار مبادئ للتنفيذ متضمنة فيه، غير أن جل تلك الآليات تنص الدساتير عليها، وهى دساتير أثبتت التجربة العملية مساهمتها فى نجاح التغيرات كما هو الحال فى البرازيل وجنوب إفريقيا وإيران والهند وغيرها.

 

ولا تقتصر مشكلات دستور 1971 على هيكله، بل تشمل الكثير من نصوصه مما لم يأخذ قسطا من الاهتمام فى المشروعات المختلفة المقدمة لضيق الوقت والحاجة للتركيز على قضايا بعينها، ومن ذلك منهجه فى التعامل مع التعددية الطبقية والعرقية والدينية فى مصر، والقنوات التى يمكن من خلالها التعبير عن ذلك فى المجال العام فى إطار الحفاظ على الوحدة الوطنية، وهى قضية تعامل معها الدستور السابق بمنطق قمعى أدى لتفجر مشكلات جمة قبل الثورة وبعدها، وغير ذلك من القضايا.

 

لم يكن اقتراح لجنة صياغة التعديلات الدستورية إمهال البرلمان ستة أشهر لاختيار الجمعية التأسيسية، ثم إمهالها ستة أشهر لصياغة الدستور عبثيا، إذ لا بد للمجتمع لأن ينشغل ــ بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية والرئاسية ــ بالنقاش حول القضايا الدستورية ليخرج الدستور لا توافقيا فحسب، وإنما معبرا عن آمال المصريين فى ثورتهم، وممهدا لإعادة بناء الوطن، وهو نقاش لا يمكن استبداله بحوارات الأحزاب فى الغرف المغلقة، بل لا بد لمسارى الغرف المغلقة والنقاش المجتمعى أن يتكاملا، وألا يقبل الشعب ونوابه بالالتفاف على إرادته الديمقراطية و«سلق» الدستور.  

التعليقات