«الفضيلة وسط بين رذيلتين» واحدة من كلمات أرسطو الخالدة. والرذيلتان هما الدفاع عن الديمقراطية أخذا بفضائلها دونما اعتبار لترتيباتها المؤسسية، أو الهجوم عليها لعدم ملاءمتها لنا دونما اعتبار لخسائر غيابها. والموقف السليم هو الوسط الذى يرى فيها مخاطرها وعوائدها وكيف ينبغى أن ينعكس نبل الهدف على نبل الوسيلة.
ولهذا الغرض كانت هناك أقسام العلوم السياسية والقانون الدستورى والتاريخ حتى تفيد صانع القرار متى توافرت عنده إرادة التحول الديمقراطى الذى نحن العرب بعيدون عنه لأسباب كثيرة.
ولنبدأ على تأكيد أن الديمقراطية اختراع إنسانى عبقرى لأنها نوع من قمع القمع ولجم جماح الاستبداد عن طريق تعدد مراكز صنع القرار والرقابة المتبادلة بين مؤسساتها فضلا عن حق المحكوم فى أن يكون حاكما فى يوم الانتخابات، وواجب الحاكم أن يقبل بحكمه إما بالعزل أو بالبقاء.
ومع ذلك تظل الدول العربية مسئولة عن أكثر من 50 بالمائة من الدول غير الديمقراطية مع أن الدول العربية لا تشكل إلا نحو 10 بالمائة من دول العالم (22 دولة عربية من 200 دولة فى العالم). وتقف النخب العربية الحاكمة ومعها قطاع من المثقفين العرب موقف الريبة الشديدة من الديمقراطية محتجين بما لها من آثار سلبية محتملة على الاستقرار والتنمية.
والسؤال المطروح هل لمخاوفهم أسس منطقية من الواقع؟ تؤيد بعض المشاهدات منطق هذه النخب ولنأخذ مثالا معاشا مما تعانية دولة الكويت، وهى الدولة الأكثر ديمقراطية فى دول الخليج، من عدم استقرار سياسى نال من خطط التنمية والبرامج الخدمية للدولة فقد حل البرلمان مرتين واستقالت الحكومة ثلاث مرات فى آخر أربع سنوات.
وقد استند الرئيس مبارك صراحة فى رفضه للتخلى عن رئاسة الحزب الوطنى أنه من أنصار وجود حزب قوى يمنع نمط الحكومات الائتلافية والضعيفة التى كانت موجودة قبل الثورة وعليه فمصر بحاجة لنوع من ديمقراطية «الجرعة جرعة» بما لاينال من استقرار الوطن وأمنه.
إذن هل الديمقراطية لا تصلح لمجتمعاتنا العربية؟ الإجابة المريحة، لا تصلح. لكن الإجابة الصحيحة هى أنها تصلح إذا ما ارتبطت هذه الديمقراطية بهندسة مؤسسية ودستورية تستوعب طبيعة هذه المجتمعات اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.
وعليه، فهذه الجملة الأخيرة تنقلنا من التساؤل عن مدى ملاءمة الديمقراطية لمجتمعاتنا إلى تساؤل أكثر عمقا عن أى ترتيبات مؤسسية ودستورية تصلح لأى من المجتمعات العربية. ويكفى الإشارة إلى تحديات أربعة تواجهها بعض مجتمعاتنا العربية ويمكن أن تتحول معها الديمقراطية إلى عامل عدم استقرار بل وربما تكون نتائجها أفدح من عواقب غيابها.
فأولا: هناك نموذج الدولة المنقسمة قوميا حيث تعرف بعض الدول العربية درجة عالية من التوازى فى أشكال الانقسام والتى تبدو وكأنها دولة واحدة بالمعنى الدبلوماسى والقانونى لكن يعيش فيها عدة مجتمعات بالمعنى الثقافى والاجتماعى.
ولنأخذ السودان مثالا. ومع كثير من التبسيط لخريطة سكانية معقدة، فإنه يغلب على قاطنى شمال السودان أنهم يتحدثون العربية ويدينون بالإسلام وفى وضع اقتصادى أفضل نسبيا مقارنة بأهل الجنوب وظلوا القابضين على مقاعد السلطة فى مواجهة الجنوبيين الذين يغلب عليهم أنهم لا يتحدثون العربية ويدينون بخليط من المسيحية و«كريم المعتقدات الإفريقية» كما ينص الدستور السودانى، وهم فى وضع اقتصادى أسوأ كثيرا من أهل الشمال، وظلوا فى معظم تاريخ السودان الحديث بعيدين عن مراكز صنع القرار. وهذا ما يعنى ضمنا أن السودان أقرب إلى دولة واحدة لكن يقطنها أكثر من قومية.
وعليه فإن أى تطبيق ديمقراطى لا بد أن يرتبط بحذر شديد حتى لا تؤدى الديمقراطية إلى تعميق هذه الانقسامات الأولية بما يثير النعرات العرقية والقبلية انتهاء بالحروب الأهلية.
ومن هنا اخترع التنظير السياسى فكرة الفيدرالية المرنة والتى قال بها عبقرى الفلسفة السياسية الأمريكى والذى أصبح الرئيس الرابع للولايات المتحدة جيمس ماديسون حتى يمكن الجمع بين ما هو «مشترك ومتوافق عليه من ناحية، وما هو خاص ومحلى من ناحية أخرى». ومرونة الفيدرالية تقتضى توسيع صلاحيات المركز بما يضمن تخفيف حدة الانقسامات ويقتضى درجة عالية من تمثيل الولايات فى الحكومة الفيدرالية والتفاوض بينهما حتى لا يسود الاعتقاد بأن مركز الدولة أداة فى يد فئة أو مجموعة ضد بقية فئات المجتمع.
كما يعول التنظير السياسى على دور الرموز الوطنية المشتركة مثل الزعامات المعروفة برصيدها السياسى الكبير عند جميع مواطنى الدولة بغض النظر عن انقساماتهم الأولية (مثل غاندى ونهرو فى الهند) وكذلك يعول على أهمية وجود حزب وطنى فوق عرقى يمثل فى مرحلة معينة المصالح والتطلعات المشتركة للجميع مثل دور حزب المؤتمر الهندى والذى يستخدم كأهم سبب لتفسير نجاح مشروع المواطنة والديمقراطية الهندية (رغما عن التحديات الكثيرة) فى مقابل إخفاقات التجربة فى باكستان ونيجيريا وبنجلاديش، كما ينظر إلى دور حزب العمل الإسرائيلى بنفس المنطق خلال أول ثلاثين سنة من عمر الدولة العبرية.
ثانيا: هناك نموذج الدولة المنقسمة أيديولوجيا: ومن هنا ابتكر التنظير السياسى فكرة أن يكون النجاح فى الانتخابات ليس بالضرورة باستيفاء نسبة الـ50 بالمائة +1، وإنما يكفى نسبة أقل (ولتكن 40 بالمائة كما هو الحال فى كوستاريكا). كما ابتكر العقل السياسى فكرة وجود مجلسين يقوم أحدهما بتقديم حلول مقترحة لاتقاء التناحر السياسى المحتمل حدوثه فى المجلس الآخر.
كما يؤدى وجود مجلس قضاء أعلى أو محكمة دستورية تفصل فى أسباب النزاع إلى وجود مؤسسة تتسم بالحياد تقف حكما بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو المجلس الذى لو كان موجودا فى النظام الأساسى للسلطة الفلسطينية لكان قد فصل فى دستورية القرارات التى اتخذتها الأغلبية البرلمانية لحماس وقرارات الرئيس الفلسطينى عباس. وبالمناسبة تقدم دول كوستاريكا وأوروجواى وشيلى نماذج تدرس بعناية للهندسة المؤسسية الفعالة فى مجتمعات كان ينظر لها تقليديا على أنها غير معدة للتحول الديمقراطى.
ثالثا: هناك الدولة المهددة ديمقراطيا: أى التى تعانى وجود جماعات تعمل على اختطاف الديمقراطية باستخدامها مرة واحدة ثم التخلص منها بعد الوصول إلى السلطة ومن هنا ابتكر التنظير السياسى فكرة استبعاد القوى السياسية التى يمكن أن تستخدم أساليب ديمقراطية للقضاء على الديمقراطية بحكم الدستور بل فى مواد فوق دستورية أى لا يمكن الاتفاق على مخالفتها ولا يمكن تعديلها إلا بأغلبية استثنائية، ومن ذلك التجربة الألمانية التى تضع مادة فى الدستور تمنع نشأة الأحزاب أو تكوين الجماعات التى لا تحترم الدستور. وعليه تم حظر الكثير من الجماعات المتطرفة يمينا (مثل الأحزاب النازية) أو يسارا (مثل الجماعات الشيوعية).
رابعا: هناك نموذج الدولة الهشة بنيويا: حيث تكون سلطة رأس الدولة وشرعية نظام الحكم ووحدة المجتمع شديدة الترابط على نحو يجعل المساس بصلاحيات رئيس الدولة وإضعاف مركزه السياسى سببا كافيا للنيل من شرعية نظام الحكم برمته وبالتالى تهديد لوحدة المجتمع التى ستتحول إلى ساحة للصراعات السياسية والانفجار من الداخل؛ فالانفتاح السياسى المحدود الذى قاده جورباتشوف فى الاتحاد السوفيتى أدى إلى انهيار تام لوحدة الدولة.
وكذا فإن غزو العراق لم يعن فقط التخلص من رئيس الدولة، وإنما تدمير شرعية حزب البعث الحاكم ووضع ووحدة الدولة العراقية موضع تساؤل؛ وعليه فإن النظرية الديمقراطية، جعلت من بناء دولة المواطنة واحترام حكم القانون بكل تجرد وليبرالية التعليم والخطاب الإعلامى شرطا ضروريا ومتلازما للتحول الديمقراطى؛ فالتحول الديمقراطى بدون ديمقراطيين فى الحكم والمعارضة وبين قادة الرأى العام فى المجتمع يعنى الفوضى فى أعقاب القمع.
إذن ديمقراطية عمياء لا تستفيد من تجارب الدول الأخرى ولا تراعى خصوصية المجتمعات العربية هى ضرر محض؛ ومن أسف كان معظم الفقهاء الدستوريين القائمين على تطبيقات الديمقراطية العربية أقل حنكة مما نواجهه من تحديات واكتفوا بالنقل عن دساتير دول أخرى دون حس سياسى عال يرى ملامح الاختلاف والتفاوت، فأساءوا للديمقراطية وجعلوا الاستبداد بديلا أكثر واقعية عنها. وهو ما ينبغى أن يعيه المطالبون بالديمقراطية حتى لا تكون ديمقراطية هادمة لذاتها أو للدولة التى تعيش فيها.