غزة وميزان القوى فى الشرق الأوسط - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الخميس 12 سبتمبر 2024 1:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غزة وميزان القوى فى الشرق الأوسط

نشر فى : السبت 17 أغسطس 2024 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 17 أغسطس 2024 - 7:35 م

العجز زهاء المأساة الإنسانية والسياسية المستمرة فى غزة منذ أكثر من عشرة شهور يجعل المراقب المهتم يتردد فى الكتابة عنها من جديد. الحجج الداعية لوقف الحرب فى غزة، وكذلك فى الضفة الغربية، وللبحث الجدى عن تسوية تنزع فتيل غضب الشعب الفلسطينى نفذت أو تكاد. باستثناء أشدّ الصهاينة صهيونيةً وأكثرهم تطرفا، لا يمارئ أحدٌ فى شرعية هذا الغضب الذى عبر الشعب الفلسطينى عنه قبل سنة 1948 وبعدها. قبل نشأة إسرائيل، عبر الشعب الفلسطينى عن غضبه فى ثورة البراق فى سنة 1929 وفى الثورة الكبرى فيما بين 1936 و1939. لزهاء عشرين عاما بعد سنة 1948، نفث الشعب الفلسطينى عن غضبه بالمطالبات وبمناشدة العالم أن يمكِّنَه من حقوقه.
لما لم ينفع الكلام، اتخذ هذا الغضب شكل الكفاح المسلح الوطنى والعلمانى. هذا الكفاح وانتفاضة الشعب الفلسطينى فى النصف الثانى من ثمانينيات القرن الماضى فى الأراضى الجديدة التى احتلتها إسرائيل فى سنة 1967 أفضيا إلى المسار الذى أطلقه مؤتمر مدريد فى سنة 1991، من جانب، وإلى اتفاق أوسلو فى سنة 1993 ومن بعده اتفاقية واشنطن فى سنة 1994 التى وقعها ياسر عرفات، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلى، فى حضور الرئيس الأمريكى بيل كلينتون وفى مقر حكمه، البيت الأبيض، من جانب آخر.
بدون الدخول فى تفاصيل لا جدوى منها اليوم، المفاوضات الناشئة عن مسار مدريد لم تسفر عن شىء. وبدورها عملية أوسلو - واشنطن لم تمكّن الشعب الفلسطينى ممارسة أى من حقوقه السياسية فى الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى سنة 1967 وحدها، وهى الأراضى التى قبلت اللجنة التنفيذية للمنظمة أن تقوم دولة فلسطين عليها، دولة تعيش إلى جانب إسرائيل. نتيجة لذلك، وفى ظل التوسع فى الاستيطان فى الضفة الغربية ووحشية الحصار المفروض على غزة، تجدد الغضب الفلسطينى وهو اتخذ هذه المرة طبيعة إسلامية سياسية امتدت لتصبح كفاحا مسلحا ذا صبغة إسلامية سياسية. باختصار، الغضب المترتب على انتهاك كافة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطينى وعدم علاج هذا الغضب هما الأصل فى كل الاضطراب الذى تعيشه المنطقة المسماة بالشرق الأوسط فى عشرات السنين الماضية، وهو غضب اتخذ التعبير عنه أشكالا وطبائع متغيرة. هجمة السابع من أكتوبر هى انفجار لهذا الغضب. ليس من المعقول ولا من التفكير السوى الذى يربط الأفعال بمسبباتها فصل السابع من أكتوبر عن إطاره، عما سبقه من سلب وانتهاكات ومراوغة واستهتار وتجاهل، كما تريد إسرائيل ومن يساندونها.
• • •
فى الشهور العشرة الماضية صَدَرَت قرارات عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بل وعن مجلس الأمن ولم تَصدُر غيرها، واتخذت محكمتان دوليتان أحكاما وأصدرت فتاوى بوقف القتال فى غزة، وبوجود شبهة إبادة الجنس البشرى فى الحرب التى تشنها إسرائيل عليها، وبعدم شرعية احتلالها للأرضى الفلسطينية، وطلبا باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلى ووزير دفاعه للتحقيق معهما بتهمتى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فى غزة. رئيس الولايات المتحدة، السند لإسرائيل بالسلاح والمال والمشورة فى حربها على غزة، أصدر خطةً من ثلاث مراحل لإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين فى غزة والفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية، وللوقف النهائى للقتال، ثم لإعادة إعمار القطاع. مع كل ما تقدم فلا حياةَ لمن تنادى، بل تماديا فى الوحشية وقتل عشرات الآلاف، وتدمير المدارس على رءوس تلاميذها، والمستشفيات على أجساد جرحاها ومرضاها.
فجأة، فى الأيام العشرة الماضية، أصبحت الولايات المتحدة وحليفاتها الأطلسية الرئيسية متحرقةً إلى وقف إطلاق النار فى غزة! هذا تصريح يصدر عن زعماء بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وذاك إعلان لزعماء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا. هؤلاء الزعماء، على ما يبدو رقّت قلوبهم على أهل غزة، بعد أن قتل منهم الأربعون ألفا غير الآلاف أو عشرات الآلاف الراقدة جثثهم تحت الأنقاض، وصاروا يريدون وقف إطلاق النار اليوم قبل غد. هم عبروا عن تأييدهم للبيان الصادر عن الولايات المتحدة ومصر وقطر الذى دعت فيه الدول الثلاث إسرائيل و«حماس» إلى مباحثات بهدف وقف إطلاق النار يوم الخامس عشر من أغسطس، وتوجهوا إلى إيران مطالبين إياها «بعدم التصعيد» فى الشرق الأوسط، وبالكف عن عدوانيتها تجاه إسرائيل، أو بعبارة أخرى بعدم الرد على اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسى «لحماس»، إسماعيل هنية، المفاوض على وقف إطلاق النار وعلى إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين والفلسطينيين، على أرضها.
ولم يكتف هؤلاء الزعماء بذلك بل اتصل منهم زعماء فرنسا وبريطانيا وألمانيا بالرئيس الإيرانى الجديد يستحثونه عدم الرد حتى تنجح الجهود الرامية إلى وقف إطلاق النار فى غزة، أى الجهود التى تبذلها الولايات المتحدة ومصر وقطر. محصلة التصريحات والاتصالات هى أن أى ردٍّ من إيران سيؤدى إلى تصعيد وإلى حرب إقليمية تقضى على فرص وقف إطلاق النار وعلى تبادل المحتجزين. وللدلالة على جديتها فى ردع إيران وفى الدفاع عن إسرائيل أرسلت الولايات المتحدة حاملة طائرات وغواصة حاملة للصواريخ الموجهة إلى المنطقة.
• • •
على الرغم من التعجب من اللهفة المفاجئة على وقف إطلاق النار فى غزة، فمرحبا بهذه اللهفة. ولكن ما هو المنطق فى ربط وقف إطلاق النار بعدم ردّ إيران على اغتيال اسماعيل هنية على أرضها؟ ربما رأت إيران أن سيادتها قد انتهكت، وربما شعرت بأن مكانتها قد اهتزت اهتزازا شديدا فى أعين أنصارها وأنها لا بدّ أن تعيد الاعتبار لمكانتها هذه، وهى ربما فضلت عدم الرد مطلقا أو عدم الرد الآن لتتفادى تكالب قوى عليها ليست لها طاقة بها. إيران تتخذ قرارها على حسب ما تراه مصلحتها. أما الحرب فى غزة فهى مسألة منفصلة ومستقلة حتى عن اغتيال رئيس المكتب السياسى «لحماس» فى العاصمة الإيرانية. ليس دليلا أبلغ على ذلك من هذه الحرب المستمرة حتى بعد اغتيال إسماعيل هنية وبصرف النظر عما تدبر له إيران أو عما ارتكبته إسرائيل. الحرب هى نفسها قبل اغتيال هنية وبعده. فى الأسبوع الماضى وحده استمرت إسرائيل على نهجها فدمرت خمس مدارس وقتلت فى الأخيرة منها وحدها مائة من الفلسطينيين أغلبهم أطفال ونساء. وقف إطلاق النار مطلوب أيا كان ردّ إيران أو عدم ردّها، وهو مع ضرورته ليس مطلوبا فى حد ذاته، بل كحلقة فى عملية تعالج غضب الشعب الفلسطينى بتمكينه من حقوقه، وأولها حقه فى تقرير المصير، فى ذلك الجزء من أرض فلسطين الذى احتل سنة 1967. علاج غضب الشعب الفلسطينى هو الذى ينزع فتيل الاضطراب عن منطقة الشرق الأوسط. ولنردف أن غضب الشعب الفلسطينى والتعبير عنه سابقان بعشرات السنين على قيام الجمهورية الإسلامية فى إيران.
• • •
عند كتابة هذا المقال، لم تكن قد رشحت أنباء عن مباحثات الخامس عشر من أغسطس التى بدأت فى العاصمة القطرية، وهى مباحثات تغيب عنها «حماس» لما ترى أنه عدم جدية إسرائيل فيها، وإن كانت، وعلى ما يبدو، ستتابع ما يجرى فيها من خلال قنواتها المفتوحة مع مصر وقطر. غير أن المهم فى التصدى للمسألتين المنفصلتين لوقف إطلاق النار وتفكيك الغضب الفلسطينى، من جانب، وردّ إيران أو عدم ردها، من جانب آخر، يجب أن يكون توزيع القوى فى الشرق الأوسط نصب أعيننا.
منذ أكتوبر الماضى، تبغى إسرائيل القضاء تماما ليس على «حماس» وحدها بل على قدرة الشعب الفلسطينى على الغضب، لأن هذا الغضب قد يتجلى بشكل مختلف بافتراض أن «حماس» اختفت من الوجود. باغتيالها لإسماعيل هنية فى طهران، تريد إسرائيل استفزاز إيران أولا لدفعها إلى اتخاذ أعمال انتقامية؛ وهى ترمى إلى جرّ الولايات المتحدة ثانيا إلى المنطقة للتصدى لأى أعمال انتقامية إيرانية ولخوض حرب إقليمية إلى جانبها أو بالنيابة عنها.
واقع الأمر هو أن إسرائيل هى التى تهدد بحرب إقليمية. مع القضاء على القدرة الفلسطينية على الغضب، ثم التخلص من إيران بفعل القوة الأمريكية، إسرائيل ترمى إلى التخلص من أى قوة مناوئة لها فى المنطقة. بإيجاز، إسرائيل تريد أن تطلق لقوتها العنان فى الشرق الأوسط. أيا كانت مواقفنا من مرحلة الغضب الفلسطينى «الحمساوية»، وأيا كان رضاؤنا عن طبيعة النظام السياسى الإيرانى، فليس من مصلحتنا أن يميل ميزان القوى الإقليمى بوزن ثقيل فى مصلحة إسرائيل. من شأن مثل ميزان القوى هذا أن يؤثر على قرارات باقى دول المنطقة فى غير مصالحها من جانب، وهو نذير باضطراب مستمر فى الشرق الأوسط لأن دوله وإن التفتت عنه اليوم فهى لن تقبله غدا أو بعد غد، من جانب آخر.
وقف الحرب على غزة وتمكين الشعب الفلسطينى من حقوقه الوطنية فى الضفة الغربية وغزة شرطان مرتبطان ضروريان للاستقرار فى الشرق الأوسط.
توازن القوى فى المنطقة حيوى لترسيخ هذا الاستقرار وإدامته.

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات