المصريون فى حاجة إلى إجازة من الفضائيات والإعلام والمظاهرات والاعتصامات والمعارك الحزبية.. المصريون فى حاجة لاستعادة أنفسهم بعيدا عن الصراعات بين القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة.. لقد أشعل الإعلام المصرى المعارك فى كل بيت وأشعلت المظاهرات والاعتصامات والتراشق كل أرجاء المحروسة.. ووجدنا أنفسنا أمام جبهات كثيرة كل جبهة تلقى المسئولية فيما يحدث الآن على جبهات أخرى.. فلماذا لا تهدأ كل هذه الجبهات ونتجه للعمل والإنتاج والتفكير فيما يواجهنا من مشاكل وأزمات لماذا لا نجلس مع بعضنا البعض لنراجع معا ما حدث من أخطاء وما ننتظر من نتائج.
فى مصر الآن ما يشبه حرب الكواكب ولكنها تحمل اسما آخر هو حرب الفضائيات وكله يدور فى الفضاء.. إن الفضائيات الآن هى مسرح المعارك وفيها تجد كل جبهات الصراع السياسى فى مصر وكل طرف يلقى المسئولية على طرف آخر.
إن جهاز الشرطة وهو يواجه أزمات حادة فى الشارع المصرى يلقى المسئولية على أجهزة الإعلام ويتهمها بأنها تشعل الفتن بين أبناء المجتمع الواحد.
على الجانب الآخر فإن أجهزة الإعلام تلقى مسئولية الانفلات فى الشارع المصرى على أجهزة الأمن التى لم تعد تؤدى واجباتها ودورها منذ قامت ثورة 25 يناير.. إن أجهزة الإعلام ترى أن الشرطة تستطيع إذا أرادت أن تعيد الانضباط للشارع المصرى لأن رجال الشرطة يعرفون أماكن 350 ألف بلطجى يعبثون فى الشارع المصرى وأن أى ضابط مباحث فى أى قسم من الأقسام يعرف المسجلين الخطرين والبلطجية ويستطيع أن يجمعهم فى ساعات قليلة.. على الجانب الآخر فإن الشرطة تتهم الإعلام بأنه يبالغ فى الحديث عن حالة الانفلات وان هذه الظواهر كانت موجودة قبل الثورة ويكفى أن مصر شهدت أكثر من 240 مظاهرة واعتصام فى عام 2010 وقبل قيام الثورة.
فى منطقة أخرى تقف الحكومة تتبادل السجال مع فئات أخرى كل فئة تبحث عن وسيلة لتحقيق مطالبها.. يقف أمام الحكومة أساتذة الجامعات يهددون بالإضراب عن العمل ويتقدمون فى مسيرة إلى مجلس الوزراء حيث لم يقابلهم أحد ولم يسمع لهم أحد وهم يطالبون بتنحية كل القيادات الجامعية الحالية التابعة للنظام السابق والبدء فى انتخابات جديدة لاختيار القيادات الجامعية.
على الجانب الآخر من المواجهة يقف إضراب الأطباء.. وإضراب المدرسين.. وهناك فئات أخرى تنتظر دورها أمام مجلس الوزراء وقبل ذلك كله إضراب عمال المحلة.
إن مجلس الوزراء لا يستطيع الوفاء بكل هذه المطالب الفئوية فى وقت واحد وإنه لا يستطيع تحقيق مطالب أساتذة الجامعات والأطباء والمدرسين فى نفس الوقت.. ولكن هناك فصيلا آخر يقف فى مظاهرة طالت أمام مبنى محافظة أسوان وهم أهل النوبة ويبدو أنهم فى طريقهم لحل هذه الأزمة العتيقة.. فريق آخر منهم قاد مظاهرة فى الاسكندرية بينما اتجه فريق ثالث للاجتماع مع د.عصام شرف رئيس الوزراء لتلبية مطالب أهلى النوبة.. لم ينس أكبر قطاع سكانى فى مصر وهم الفلاحون أن يتقدمون بمطالبهم إلى الحكومة فى احتفالية ضخمة فى استاد القاهرة يوم عيد الفلاح بينما اتجه فريق آخر منهم إلى ميدان التحرير فى يوم جمعة تصحيح المسار للتضامن مع شباب الثورة.
أمام محكمة جنايات التجمع الخامس حيث يحاكم الرئيس السابق ورموز نظامه تدور معارك دامية بين أنصار الرئيس السابق واسر الشهداء وتتدخل الشرطة وتحاصر الجميع ويسقط مئات المصابين ولكن مصابى الشهداء هم الأغلبية.
على صفحات الجرائد والمجلات ووسائل الإعلام تجرى معارك أخرى بين رموز الأحزاب الدينية ولا أحد يعرف عددها الآن ورموز الأحزاب العلمانية والليبرالية والمدنية وكل فصيل منها يلقى التهم على الآخر ويحمله مسئولية ما يحدث فى الشارع المصرى من حالات الانفلات.
الأحزاب الإسلامية تحاول تشكيل كتلة ضخمة تقود بها الانتخابات البرلمانية والرئاسية بينما تطالب الأحزاب الليبرالية بتأجيل الانتخابات حتى تهدأ أحوال الناس ويعود الانضباط للشارع المصرى ونواجه بحسم حالة الانفلات التى تهدد كل شىء.
وسط هذه المواجهات بين جميع القوى فى مصر تنجح مليونية جمعه تصحيح المسار ويشهد ميدان التحرير صورة حضارية لمظاهرة ناجحة بكل المقاييس.. ولكن مع نهاية اليوم تتقدم مجموعات من المتظاهرين إلى مبنى وزارة الداخلية وتشتبك مع رجال الشرطة ثم يتقدم فريق آخر إلى مبنى السفارة الإسرائيلية وتحدث الكارثة ويسقط ثلاثة قتلى وأكثر من ألف مصاب من رجال الشرطة والمواطنين.
الغريب فى الأمر أن هؤلاء جميعا يتحدثون باسم الشعب وباسم ملايين المصريين ابتداء بمشجعى النادى الأهلى وانتهاء بفلول الحزب الوطنى الذين عادوا إلى الشارع بقوة يحشدون البلطجية ويدفعون ملايين الجنيهات أمام عين الحكومة والمجلس العسكرى.
أمام كل هذه الاشتباكات والصراعات يقف المجلس العسكرى حائرا بين القوى السياسية المختلفة ويرى أن حالة الانفلات تتطلب إجراءات سريعة وحاسمة لإعادة الانضباط إلى الشارع المصرى الذى وصل إلى درجة خطيرة تهدد امن واستقرار الوطن.. إن الصورة التى نراها الآن تعكس خللا رهيبا فى التعامل مع الأزمات والمشكلات التى يواجهها الشارع المصرى.
لقد تأخرنا كثيرا فى معالجة ظاهرة البلطجية فى الشارع المصرى وهل هى ظاهرة تخضع لترتيبات وأطراف تقف وراءها أم أنها ظاهرة طبيعية بعد قيام الثورة.. أن صور البلطجية الذين نراهم على شاشات التليفزيون تؤكد أننا أمام نوعيات من البشر تشبه إلى حد كبير هؤلاء الذين رأيناهم فى موقعة الجمل وهناك مؤشرات كثيرة تؤكد أن فلول الحزب الوطنى المنحل بدأت تتحرك على جبهات كثيرة.. إنهم يتحركون الآن استعدادا للانتخابات البرلمانية وقد حشدوا عددا كبيرا من الأبواق فى الصحف والفضائيات وبدأت أصواتهم ترتفع بل إن أعدادا كبيرة منهم بدأت تتجه إلى المحاكم حيث يحاكم رموز النظام فى الأوتوبيسات المكيفة للاعتداء على أسر الشهداء.
هناك أصوات كثيرة بدأت الآن تتحدث ببجاحة عن عودة رموز الحزب الوطنى المنحل للعمل السياسى فى ظل مصالحة وطنية..
وهنا أطل قانون الطوارئ مرة أخرى ليفسد على المصريين فرحتهم بثورة لم تقدم لهم بعد أى أمل فى التغيير.. عاد قانون الطوارئ يطل فى إجراءات سريعة ومتسرعة تهدد حرية الرأى والتعبير والتظاهر وهى الإنجاز الوحيد الذى حققته الثورة فى أن الإنسان المصرى بدأ يستنشق هواء نقيا وسط عالم ملوث فى كل شىء حاصره ثلاثين عاما فى ظل نظام مستبد غاشم.
وكأن الثورة ما قامت وكأن سلطات البطش ما تغيرت..
إن السبب فى ذلك كله أننا حتى الآن لم نحسم قضية العزل السياسى رغم الغاء الحزب الوطنى وحين يأتى موسم الانتخابات سوف تشهد مصر معارك دامية بين فلول الحزب الوطنى المنحل والقوى السياسية المختلفة.
هناك قضايا أخرى أهم من صراعات الأحزاب والحكومة والعلمانيين والإسلاميين ومنها أموال مصر فى الخارج التى لم نصل حتى الآن إلى شىء منها يشعرنا بجدية إجراءات المطالبة بهذه الأموال.. هناك تناقضات غريبة فى موقف الغرب بما فى ذلك أوروبا وأمريكا من أموال مصر فى الخارج.. لقد شهد مؤتمر باريس فى الأيام الأخيرة قرارا بإعادة 30% من أموال ليبيا والتى تقدر بحوالى 150 مليار دولار فى بنوك الغرب أى أن ثوار ليبيا سوف يحصلون على 50 مليار دولار فى حين أن مصر حتى الآن لم تسترد دولارا واحدا رغم أن الثورة الليبية لم تكتمل بعد.. وهذا ما حدث مع الأشقاء فى تونس.. إن هذا يطرح سؤالا مهما حول مدى جدية الإجراءات التى اتخذتها مصر للمطالبة باسترداد أموالها ولماذا تأخرت كل هذا الوقت وما هى الإجراءات التى تمت بالفعل وهل هى كافية فى ظل أحكام القوانين والأعراف الدولية.
من الغريب أيضا أن القوى السياسية فى مصر بما فيها النخبة لم تتفق على شىء حتى الآن.. لم نتفق على موقف نهائى من قضايا الدستور والانتخابات البرلمانية وانتخاب رئيس الدولة وأضعنا الكثير من الوقت فى تبادل الاتهامات والتشكيك والخيانة والتمويل الخارجى والتمويل العربى والإسلاميين والعلمانيين والليبراليين ومن كل لون.
لقد تحدث وزير العدل المستشار عبدالعزيز الجندى عن أموال تلقتها جهات كثيرة فى مصر من الجمعيات الأهلية والنشطاء السياسيين بهدف إثارة القلاقل والأزمات فى الشارع المصرى وعلى الحكومة أن تعلن أسماء هذه الجمعيات وهؤلاء النشاط وأن تتم إحالتهم إلى النائب العام.. لا أحد فوق القانون ولكن حتى لا يؤخذ العاطل بالباطل يجب أن تكون الاتهامات واضحة وصريحة وموثقة من الأجهزة المسئولة فى الدولة.
نحن الآن أمام موقف خطير للغاية.. انفلات فى الشارع المصرى فى الأمن والإعلام.. ولغة الحوار.. والبلطجية.. وفلول الحزب الوطنى.. والمحاكمات وعدم الثقة بين جميع الأطراف فى العملية السياسية.. إن أخطر ما يهددنا هو حالة العجز التى نواجهها تجاه قضايا الوطن داخليا وخارجيا.. كان ينبغى بعد أن نجحت الثورة وسقط رأس النظام وبعض رموزه أن يكون الهدف هو استكمال مسيرة الثورة فى إقصاء ما بقى من رموز النظام السابق وما بقى من أفكار الحزب الوطنى ورموزه وأن يسعى المجلس العسكرى بالتعاون مع الحكومة لبدء مرحلة جديدة من بناء دولة حديثة لأن الصراعات والمعارك التى نشهدها الآن لن تسير بنا خطوة واحدة للأمام لقد فشلنا طوال الشهور الماضية فى الاتفاق على شىء حتى وصلت بنا الأحوال إلى ما نحن فيه ولا أحد يعلم ما سيحدث غدا.
هل يمكن أن يحصل المصريون على إجازة لمدة شهر واحد يلتقى فيه المسئولون فى المجلس العسكرى والحكومة والأحزاب السياسية ورموز النخبة وشباب الثورة وعقلاء هذا الوطن لوضع خريطة طريق تعيد لهذا الوطن أمنه واستقراره.