أسعد كثيرا بقراءة ما يكتبه الدكتور علاء الأسوانى، وألمس فيه الصدق والإخلاص والأمانة لخدمة هذا الوطن. ولكن بحكم التدريب الأكاديمى يجد المرء نفسه دائما راغبا فى التثبت من صحة المقولات النظرية أو الأحكام النابعة من الخبرة الشخصية، عن طريق وضع هذه المقولات والأحكام على مائدة الاختبار فى حدود ما هو متاح من بيانات منتظمة.
وبحكم عمل المرء فى مجالات استطلاعات الرأى وتحليلاتها يمكن له أن يتثبت من صحة المقولات التى تطلق عن علاقة الدين والتدين بالسياسة فى مصر. ولأن هذا الموضوع شديد الاتساع فسأختصر اجتهادى المتواضع على عدد من المقولات التى وردت فى عدد من مقالات الأستاذ الفاضل علاء الأسوانى بـ«الشروق» من خلال ما هو متاح من بيانات استطلاع رأى أجرى فى مصر (3050 شخصا) فى عام 2008 كجزء من «المسح العالمى للقيم» الذى تجريه إحدى المؤسسات البحثية الأهم فى العالم بجامعة ميشيجان بالولايات المتحدة لعدد 60 دولة من دول العالم (تمثل 75٪ من سكانه)، لتسأل نفس الأسئلة وتقارن بين توجهات مواطنى هذه الدول. وفيما يلى اختبار لبعض هذه المقولات الأسوانية.
أولا، يقول الفاضل علاء الأسوانى «أما القراءة السلفية الوهابية للدين.. فهى تنزع عن الناس وعيهم السياسى تماما وتدربهم على الإذعان للظلم» (مقال 13 أكتوبر 2009).
المفترض نظريا أننا كمصريين قد أصابنا غياب الوعى هذا. والحقيقة أن بيانات استطلاع الرأى المتاح توضح أن الأغلبية الكاسحة من المصريين (98٪) لديهم نظرة إيجابية عن الديمقراطية، وهى خصيصة غير وهابية أو سلفية بالمرة. ولكن يبدو أن كلام الدكتور الأسوانى ليس مرتبطا بموقف المصريين من الديمقراطية وإنما بأهم قيمها وهى التسامح والثقة مع «الآخر» الذى هو فى حالة مصر: الآخر الدينى والآخر النوعى. وهنا يبدو أن القراءة المصرية ليست بعيدة كثيرا عما يتحدث عنه الفاضل الأسوانى؛ فثلث المصريين يعتقدون أن التعليم الجامعى أهم للرجل منه للمرأة، وحين سُئل المصريون عن أحقية الرجل بالعمل من المرأة إذا ارتفعت نسبة البطالة فكانت غالبية المصريين (حوالى 88٪) فى صالح تفضيل الرجل على المرأة.
وأن 92٪ من المبحوثين يرون أن الرجل أكثر كفاءة فى العمل السياسى من المرأة، وكلها نسب مرتفعة مقارنة بمجتمعات العالم الأكثر ديمقراطية. هناك بعد آخر يرتبط بالثقة فى الآخر الدينى، حيث يميل ثلث المسلمين من المصريين فقط للثقة فى الآخر الدينى، فى حين يميل ثلثا المسيحيين من المصريين للثقة فى الآخر الدينى. وهو تباين يشير إلى وجود مشكلة ثقافية تستحق أن تعالج مؤسسيا وقانونيا قبل أن تستفحل سياسيا.
وقد يكون من المفيد الانتقال إلى مستوى أعلى من التحليل للبحث فى مدى وجود علاقة سببية بين التدين وبعض مظاهر حياتنا السياسية والاجتماعية باختبار مقولات أخرى لكاتبنا الكبير.
ثانيا، قضية الاهتمام بالسياسة: يرى الدكتور الأسوانى أن التدين على الطريقة الوهابية التى تشيع فى مصر تؤدى إلى تدين سلبى. وتدعم البيانات المتاحة ملاحظة الأسوانى؛ فهناك بالفعل ارتباط قوى بين التدين معرفا بمواظبة الناس على أداء الصلوات فى المسجد وعدم الاهتمام بالسياسة فى مصر. وتنطبق هذه العلاقة على المسلمين المتدينين أكثر منها على المسيحيين المتدينين؛ فالمسيحى المصرى سواء كان متدينا أو غير متدين هو أكثر عزوفا عن السياسة من نظيره المسلم. وهنا يتفق الدليل الميدانى مع واحدة من مقولات الدكتور الأسوانى.
ثالثا، بيد أن لمقولة الأسوانى وجه آخر لا تدعمه البيانات، فأولئك الذين لم يعطوا للدين أهمية قصوى فى حياتهم يعتقدون أن الديمقراطية نظام حكم معيب أكثر من أولئك الذين جعلوا للدين أهمية أقل. أى بعبارة أكثر تعميما فإن الأقل تدينا من المصريين لهم تحفظات أكثر على الديمقراطية ربما لأنهم يخافون أنها ستأتى لهم بحكم الإسلاميين وفقا لهوى قطاع واسع من المسلمين. لكن لا يوجد ما يدعم أن التدين الشائع فى مصر منافٍ للديمقراطية بل على العكس، يبدو أن عدم تطرق الخطاب الدينى المعاصر لقضايا الديمقراطية فى مصر بشكل كافٍ (انظر كتابى: المسلمون والديمقراطية، الصادر عن دار الشروق) قد ترك الساحة لأدوات التنشئة السياسية الأخرى والتى أعطت للديمقراطية صورة إيجابية.
رابعا، قضايا المرأة: أشار الفاضل الأسوانى إلى أن واحدة من سلبيات التدين الشائع فى مصر أنه يركز بشكل سلبى وغير متوازن على قضايا المرأة «السؤال الأهم فى مصر الآن: ماذا ترتدى المرأة؟ ماذا تغطى وماذا تكشف من جسدها (الذى يحظى بأهمية كبرى فى الفكر الوهابى)؟ وليس السؤال أبدا: ماذا نفعل نحن المصريين حتى ننقذ بلادنا من المحنة التى تمر بها؟» (13 أكتوبر 2009)
وهنا مرة أخرى تدعم البيانات المتاحة صحة هذه المقولة إجمالا؛ فالأقل حضورا للصلاة والأقل اعتقادا بأهمية الدين فى حياته (كمؤشرين للتدين) بين المسلمين يكون أكثر تسامحا مع المرأة، أما بين المسيحيين فالتدين (مقيسًا بنفس المؤشرين) فلا يغير من توجهاتهم تجاه المرأة.
خامسا، مقولة أخرى تستحق النقاش وردت فى مقال: «هل نحن متدينون فعلا؟» (1 سبتمبر 2009) وهى: «كيف يمكن أن نكون الأكثر تدينا والأكثر انحرافا فى نفس الوقت؟».. ويبدو من هذا السؤال، حتى وإن لم يقصد الفاضل الأسوانى هذا المعنى صراحة، أن التدين فى مصر شكليات تتعايش مع الانحراف بحكم الانفصال بين التدين والأخلاق. وهنا لا تدعم البيانات المتاحة هذه المقولة فإقدام المصريين على ممارسة الشعائر الدينية يرتبط بإعلانهم أنهم يرفضون الحصول على رشوة أو الغش فى الضرائب أو الحصول على منافع حكومية بدون وجه حق، وفقا للبيانات المتاحة.
بما يعنى أن زيادة التدين فى مصر وزيادة الفساد ليستا بسبب علاقة سببية أى يؤدى أحدهما للآخر وإنما على العكس، فأحدهما (أى التدين) يقلل الآخر بما يعنى أنه لولا إقدام قطاع واسع من المصريين على التدين لكنا أكثر فسادا. وعليه فزيادة التدين وتوجيهه أكثر ضد أسباب الاستبداد والفساد ومظاهرهما يكون أفضل من التعامل مع التدين باعتباره سببا فى فساد الفاسدين، وأعتقد أن هذا هو ما يفعله الفاضل علاء الأسوانى فى كتاباته حتى وإن انطلق فى تحليله من نقطة بداية مختلفة. ونظرة عابرة لآلاف المشروعات الخيرية والمبادرات الفردية التى تتم باسم الدين أو بوحى منه تؤكد أن التدين ليس حاضنا للفساد بالضرورة، وإنما الغالب هو أن الفساد ينتشر رغما عن شيوع التدين، وليس بسببه.
يبقى أخيرا أن أشير إلى أن الأكثر تعلما فى مصر، يميل لأن يكون أكثر اهتماما بالسياسة وأكثر تسامحا مع الآخر الدينى، وأكثر قبولا للدور الاجتماعى والسياسى للمرأة رغما عن كل ما ننتقده فى نظامنا التعليمى من سلبيات.
وحتى يكون واضحا للجميع فإن استطلاعات الرأى هى لقطة فوتوغرافية نفترض أن المستطلعة أراؤهم فيها يقولون ما يعنون ويعنون ما يقولون، لا هى أشعة مقطعية تنفذ إلى ما وراء الظاهر، ولا هى فيلم فيديو يرصد الظاهرة فى حركتها. وبالتالى فى لقطة بذاتها بدا من أجابوا على استطلاع الرأى المشار إليه قريبين فى بعض الأمور وبعيدين فى البعض الآخر عما لاحظه كاتبنا الكبير. ولا بد له أن يلاحظ وأن يرصد وأن يقدم رؤيته كما يفعل، بكل شجاعة، حتى ننتج مقولات نظرية أكثر وفروضا سببية أخرى تجعلنا نفكر فى قضايانا بطريقة أكثر منهاجية وحتى لا يتحول كلامنا إلى رصاص طائش له صوت عال وعائد معدوم.
ومن أسف أن العديد من الأسئلة المهمة الأخرى كانت موجودة أصلا فى الاستطلاع ولكن الحكومة المصرية اعترضت على تضمينها فخسرنا أسئلة كانت يمكن أن تكشف لنا جوانب أخرى من شخصية الإنسان المصرى المعاصر.
أخيرا، البيانات متاحة على موقع جامعة ميشجان وهى عندى وعلى استعداد لإرسالها لمن يطلبها. بريدى الإلكترونى: moataz.fattah@gmail.com
كل التحية والتقدير لكل عامل لخدمة هذا الوطن حريص عليه.