متنوعة وخطيرة هى التداعيات المأساوية، التى تخلفها التغيرات المناخية على مستقبل الإنسانية. فإضافة إلى الخسائر البشرية؛ من وفيات وإصابات، تتسبب الكوارث الطبيعية، الناجمة عن الاحترار العالمى، كمثل؛ الجفاف، والأعاصير، وحرائق الغابات، فى إلحاق الأذى بعناصر الإنتاج، وسلاسل التوريد العالمية. الأمر الذى تجلت أصداؤه المدوية، فى ارتباك أمنى الغذاء والطاقة، علاوة على اضطراب النشاط الاقتصادى الكونى.
ووفق دراسة أعدها «مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف»، يتسبب الاستخدام المفرط للوقود الأحفورى، فى ثلاثة أضعاف الوفيات الناجمة عن حوادث السير. وجاءت الدول الأكثر مساهمة فى إنتاج الانبعاثات الضارة، مثل؛ الصين، بنسبة 26.1%، ثم الولايات المتحدة، 12.67%، وأوروبا، 7.52%، ثم الهند 7.08%، فى صدارة المتضررين من تبعات التلوث. حيث تخسر الصين سنويا 900 مليار دولار، فيما يفقد الاقتصاد الأمريكى 600 مليار، بينما تتكبد الهند 150 مليارا. وفى سنة 2018، شكلت كلفة التلوث نحو 6.6% من الناتج القومى الصينى، و5.4% فى الهند، و3% فى الولايات المتحدة. وقدرت الدراسة خسائر الاقتصاد العالمى جراء التلوث، بـ 2.9 تريليون دولار. إذ تسبب سنة 2018، فى 4.5 مليون حالة وفاة، و1.8 مليار يوم غياب عن العمل، وأربعة ملايين إصابة بأمراض التنفس. فيما تثقل ميزانية معالجة الأمراض الناجمة عنه، الاقتصاد العالمى، بمائتى مليار دولار. وخلال النصف الأول من العام الحالى، تكبد العالم خسائر اقتصادية بلغت 75 مليار دولار، بجريرة الكوارث الطبيعية، التى أنفقت شركات التأمين 105 مليارات دولار، لتغطية الأضرار المترتبة عليها. وقبل أيام، أظهرت دراسة، لجامعة أوكسفورد، أن التغير المناخى، سيكبد العالم 23 تريليون دولار بحلول 2050.
أثبتت دراسة لمنظمة العمل الدولية، عام 2018، أن النمو الاقتصادى السنوى ينخفض من 0.15، إلى 0.25 نقطة مئوية لكل درجة فهرنهايت واحدة، يعلو فيها متوسط درجة الحرارة عن المعدل الطبيعى. حيث ينشط العمال ساعات أقل، وبإنتاجية أدنى بنسبة 2%، فى الأجواء الأكثر سخونة. وتوقعت الدراسة أن تؤدى موجات الحر إلى خسارة تريليونى دولار فى إنتاجية العمل عام 2030. أما بحلول عام 2100، فقد تؤدى موجات الحر إلى خفض إنتاجية القوى العاملة بمقدار 1.2 مليار/ساعة، بما يعادل 170 مليار دولار. وفى أبريل الفائت، توقعت دراسة للمنتدى الاقتصادى العالمى، أن يؤدى تغير المناخ إلى خسارة 4% من الناتج العالمى سنويا، بحلول عام 2050 .كذلك، يؤدى الاحترار العالمى إلى تفاقم أزمة الطاقة. ففى كل يوم تتخطى درجات الحرارة 32.5 درجة مئوية، يزيد استهلاك الطاقة المنزلية بنسبة 0.4% سنويا. وبحلول عام 2100، يمكن أن يؤدى التوسع فى استخدام أجهزة التكييف، إلى زيادة استهلاك الطاقة بنسبة 83% عالميا.
توصلت الأبحاث إلى أن ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار درجتين مئويتين إضافيتين، سيقلص من غلة المحاصيل. إذ ستعانى الأراضى الزراعية الإجهاد الحرارى، والجفاف، وزيادة معدلات الملوحة، وانتشار الآفات، وانخفاض خصوبة التربة. ويتطلب بلوغ الهدف الثانى ضمن أهداف التنمية المستدامة الـ17، للأمم المتحدة، والمتمثل فى مناهضة الجوع، زيادة سنوية فى الإنتاج الزراعى العالمى بنسبة 70% حتى عام 2050، بغية إطعام 9 مليارات نسمة، هم عدد سكان الأرض المتوقع وقتذاك. غير أن الاحتباس الحرارى سيتسبب فى انخفاض الإنتاج الغذائى بنسبة 3.8%، و5.5% على التوالى حتى عام 2050، بما يرفع الأسعار بمعدل 29%. بما يضيف قرابة 183 مليون جائع، إلى قوائم المحرومين من الطعام، بحلول عام 2050. لذا، يطالب العلماء بمزيد من الضمانات لتحصين العلاقة بين أمن المناخ وأمن الغذاء.
إيكولوجيا، ضاعف تفاقم الاحترار والجفاف حول العالم بنسبة 29%، منذ عام 2000، مخاطر ظاهرة «النينا». فما إن يمتص الغلاف الجوى الأكثر دفئا، مزيدا من رطوبة الأرض، حتى تنطلق موجات الجفاف الشديدة، لتقوض سلاسل التوريد، وتفاقم أزمتى الغذاء والطاقة. ففى الغرب الأمريكى، تسببت موجة الجفاف الأسوأ منذ 1200 عام، فى فقدان أكثر من 40% من الأراضى الزراعية. أما القارة العجوز، فتشهد أسوأ موجة جفاف منذ خمسة قرون، تمخضت عن تبخر مياه أنهارها، ومعها نحو 80 مليار دولار. كما أثر انخفاض منسوب المياه سلبا على أنظمة توليد الطاقة الكهرومائية والتبريد بمحطات الطاقة. وحذر، مركز البحوث التابع للمفوضية الأوروبية، من تعرض 64% من أراضى الاتحاد الأوروبى للجفاف. فضلا عن انخفاض إنتاج الحبوب بنسبة تتراوح ما بين 8 و9%. وقد أفضى انحسار منسوب الأنهار، إلى تعطيل حركة النقل النهرى، التى تعد شريان التجارة بين الدول الأوروبية، كونها تسهم بنحو 80 مليار دولار فى اقتصاد منطقة اليورو. ما يخلف عواقب وخيمة على الصناعة، والشحن، والطاقة، وإنتاج الغذاء، كما يتسبب فى زيادة تكلفة بدائل النقل الأخرى. فى وقت كانت المفوضية الأوروبية تستهدف زيادة النقل عبر الممرات المائية بنحو 25%، بحلول 2030، كجزء من استراتيجيتها لتقليص انبعاثات الغازات الدفيئة.
بينما تمخضت موجة الجفاف، التى ضربت الهند، عن تدهور محصول القمح، وانحسار المساحات المزروعة بالأرز، بنسبة 13% هذا العام، حتى اضطرت الحكومة إلى فرض قيود على تصديرهما، ما أضر بسلاسل الإمدادات العالمية.
وعصفت موجة جفاف، هى الأسوأ منذ 157 عاما، بـ 66 نهرا فى 34 مقاطعة بمنطقة تشونج تشينج الصينية. وأدى تراجع منسوب نهر يانجتسى إلى تعطل توليد الكهرباء فى عدد من المحطات الكهرومائية الرئيسية، التى تسهم بنحو 18% من مصادر الطاقة. وأغلقت شركات مثل «تويوتا»، و«كونتمبورارى أمبريكس تكنولوجى»، أكبر منتجة لبطاريات السيارات الكهربائية عالميا، مصانعها. وبعدما اسفرت التغيرات المناخية عن نقص الكهرباء، وتعطل الإنتاج، وانكماش نشاط التصنيع، وتجميد سلاسل التوريد الدولية لغالبية السلع، خفض اقتصاديون توقعات النمو فى الاقتصاد الثانى عالميا، بحجم 18 تريليون دولار، إلى ما دون 4%. كما توقعوا نقصا عالميا فى المواد الغذائية والمنتجات الصناعية، يفوق ذلك الذى أحدثته جائحة كورونا، وحرب أوكرانيا.
لوجيستيا، أدى بلوغ درجات الحرارة فى أوروبا مستوى 40 درجة مئوية، إلى انحراف مسارات السكك الحديدية، وتعطل مدارج المطارات، وغلق الطرق الرئيسية. واكتشفت دراسة لتقييم آثار أزمة المناخ على البنية التحتية الحيوية عام 2017، أن موجات الحرارة ستشكل نحو 92% من إجمالى الأضرار الناجمة عن المخاطر فى قطاع النقل الأوروبى بحلول عام 2080. ووفقا للتقرير الصادر عن معهد المناخ الكندى، قد تصبح أكثر من نصف الطرق الشتوية فى البلاد، غير صالحة للاستعمال، أو يستحيل بناؤها خلال ثلاثين عاما. وفى عام 2020، حذرت ورقة بحثية من تدهور الطرق بمناطق التربة الصقيعية فى الصين. كما توقعت ارتدادات سلبية لاضطرابات شبكات الطرق، على حركة التجارة العالمية والتنمية، خاصة فى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
ديمجرافيا، انتهى بحث ميدانى شمل 31 دولة حول العالم، إلى أن تداعيات التغير المناخى، تدفع بأناس كُثُر صوب العزوف عن الإنجاب. وفى تقرير حديث، اعتبر البنك الدولى أن التغيرات المناخية تعد أبرز دوافع الهجرة الجماعية، التى ستشكل ملامح المستقبل، عبر رسم خريطة ديمجرافية جديدة للعالم بحلول عام 2050. حيث سيجبر ارتفاع درجة حرارة الأرض، بمعدل درجة مئوية واحدة، 216 مليون شخص على الارتحال الداخلى بحثا عن بيئات أفضل. بينما ستؤدى الزيادة بمقدار درجتين مئويتين، إلى نزوح نحو مليار شخص، التماسا لظروف مناخية أكثر ملاءمة.
اكتشف علماء، أن الإجهاد الناتج عن ارتفاع حرارة الجسم إلى أكثر من 40 درجة مئوية، قد يسفر عن الجفاف، وفقدان أملاح الجسم، ما يضر كيمياء الجسد ويرهق القلب، ويؤدى إلى وفاة الأشخاص المصابين بأمراض صدرية. وقد كشفت دراسة أمريكية حديثة، أن تغيرات المناخ، يمكن أن تتسبب فى اضطرابات عقلية ونفسية حادة. كما أن موجات الاحترار المتصلة، تؤثر على 30% من سكان الأرض، فى حين قد ترتفع تلك النسبة إلى 74% عام 2100، ما لم يتم كبح جماح الاحتباس الحرارى. ولم يسلم الأمن الإنسانى والاستقرار المجتمعى من أضرار التغيرات المناخية. فبجانب إذكاء العدوانية، وتأجيج خطاب الكراهية، ربما لا تتورع بعض الحركات اليمينية المتطرفة، عن استغلال هواجس الدمار البيئى، كوسيلة لنشر العنصرية، ورهاب الأجانب.
فى خضم ذلك الواقع المناخى والبيئى الملبد بالغيوم، يغدو المجتمع الدولى أحوج ما يكون لتلبية دعوة الأمين للأمم المتحدة، بشأن دعم الاستراتيجية الأممية بشأن «العدالة المناخية وحوكمة البقاء». تلك التى يعتبرها ملاذ البشرية الأخير، لصيانة الأمن المناخى، وحماية التنوع البيولوجى، وضمان استدامة الحياة، على الكوكب الأزرق.