نشر موقع على الطريق مقالا للكاتبة «رانية الجعبرى».. نعرض منه ما يلى.
بدأ الربيع العربى أيامه فى تونس المطلة على البحر الأبيض المتوسط، ويبدو أن ملامح نهاية هذا «الربيع» قد تنتهى هناك على مشارف البحر الأبيض المتوسط، وتحديدا حين يُحكِم الدب الروسى سيطرته على منافذ الغاز الطبيعى المحيطة بأوروبا، هنا على ناصية المتوسط، يتضح أكثر أن الجغرافيا لا تكذب، وأن المصالح الروسية ــ العربية متقابلة غير متناقضة.
بعيدا عن العواطف التى تمكنت الولايات المتحدة من تجييشها فى قلوب الشعوب العربية ضد الرئيس السورى بشار الأسد، فإن كلمة السر فى الأزمة السورية كانت الغاز.
ما زالت أوروبا تعتمد على الغاز الروسى، إذ تستورد 80% من حاجتها من الغاز من روسيا.. والدول الأوروبية ترجمت رغبتها بالتخلص من الاعتماد على الغاز الروسى، بتدشين مشروع لنقل الغاز الطبيعى من بحر قزوين عبر أذربيجان، وعلى طول الأراضى التركية مرورا برومانيا وبلغاريا والمجر، ووصولا إلى الحدود النمساوية، وذلك بتمويل أوروبى مشترك وبدعم أمريكى، إذ أطلق عليه اسم خط أنابيب نابوكو. وحينها، ستتمكن أوروبا من الحصول على الغاز القطرى الطبيعى. ولا نحتاج الإتيان بأدلة لنثبت أن دعم روسيا لصمود سوريا بدد ذلك الحلم الذى راود أوروبا.
بداية سعت روسيا إلى تقليص دور أوكرانيا كممر لابد منه للغاز الروسى إلى أوروبا، وتوجت ذلك بمشروع «السيل التركى» الذى دشنه كل من الرئيس الروسى والرئيس التركى يوم 8 يناير الحالى. وبذلك تضمن روسيا وصول غازها الطبيعى إلى دول جنوب وشرق أوروبا عبر أنابيب ناقلة تمر من البحر الأسود وعبر الأراضى التركية.
وفى يوم 11 يناير، قامت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بزيارة إلى موسكو، لبحث الأزمة الليبية والوضع فى الشرق وأعلنت ميركل خلال الزيارة أنه لابد من تنفيذ مشروع «التيار الشمالى» (نوردستريم) بغض النظر عن العقوبات الأمريكية، مشددة على أن ألمانيا ستقدم كل الدعم لإتمام المشروع. و«التيار الشمالى» هو خط أنابيب غاز طبيعى قيد الإنشاء يمتد من روسيا إلى ألمانيا، ويقوم بإيصال الغاز الروسى إلى أوروبا الغربية.
من المؤكد أن ما حدث فى المشرق العربى من صراع بين روسيا والغرب، ممكن الحدوث فى شمال إفريقيا. ومن المتوقع أن تكون ليبيا إحدى ساحات الصراع الساخنة خاصة فى ظل ظروفها السياسية والأمنية، ما يجعل أمنها القومى ومسألة وجودها كدولة أمرا مهددا، إلى أن تنجح العملية السياسية وتستعيد الدولة عافيتها. وأن روسيا لن تترك أية فرصة أمامها للاستئثار بالغاز الليبى، وتطويق أوروبا من الضفة الجنوبية للبحر المتوسط.
روسيا التى أثبتت وجودها فى سوريا تماما منذ عامين، تستمر فى تطويق أوروبا حتى تبقى أسيرة حاجتها لغاز روسيا الطبيعى. وإذا قمنا بتقسيم العالم وتحليل المنطق بناء عليه وفق ألكسندر دوغين المفكر الروسى الذى اعتاد السياسيون تسميته «عقل بوتين أو رأس بوتين» فإن أوراسيا التى تتمتع بمنطق أرضى فى سياستها وليس بحريا كما هى الولايات المتحدة، حتى تقوم وتنهض لا بد أن تتكامل مع دول موحدة غير مقسمة، من هنا نفهم حرص روسيا على وحدة سوريا، ونفهم حرص روسيا على وحدة ليبيا. وهنا يكمن التقاء المصالح العربية الروسية.
يتبقى هنا منتدى غاز شرق المتوسط، الذى تسعى إسرائيل واليونان وقبرص من خلاله إلى مد أنبوب للغاز فى شرق المتوسط لتوريد الغاز الإسرائيلى إلى اليونان وقبرص وعبرهما إلى أوروبا، ما يشكل تهديدا لروسيا.
تنقل «دويتشه فيلله» عن نائب مدير «منتدى الطاقة اليونانى» إثارته لبعض الشكوك حول مردودية الأنبوب. ففى المقام الأول تبقى التكاليف عالية. وحقيقة أن توافق اليونان وإسرائيل وقبرص على المشروع لا يعنى أنها تملك رأس المال الضرورى لتنفيذه. ومن غير المتوقع الحصول على مساعدات أوروبية، لأن أوروبا انسحبت من موارد الطاقة الأحفورية وتراهن على مشاريع طاقة خضراء. والخلاصة هى أنه «يجب تمويل أنبوب (إيست ـ ميد) من جهات خاصة وهذا سيكون صعبا».
وبالتزامن مع إعلان منتدى غاز شرق المتوسط نهاية العام 2019، كان هناك إعلان يسترعى الانتباه، إذ كشف السفير الفلسطينى فى موسكو، عبدالحفيظ نوفل، لوكالة «سبوتنيك» عن أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين سيزور بيت لحم يوم 23 يناير 2020.
وفى نوفمبر 2019 أكد بوتين أنه سيزور إسرائيل فى منتصف شهر يناير 2020، مشيرا إلى ضرورة مواصلة حماية المسيحيين فى الشرق الأوسط تحت إشراف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والكنائس المحلية.
توقيت الزيارة مع توقيت إعلان المنتدى، يفتح باب السؤال حول ما إذا كان الدب الروسى سيتخذ من حماية المسيحيين فى الشرق الأوسط تحت إشراف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وسيلة لتطويق اليونان التى تترأس بطريركية الروم الأرثوذكس فى فلسطين منذ ما يزيد على 400 عام، والتى لا تخفى تعاونها مع إسرائيل عبر قيامها ببيع وتأجير أملاك الكنيسة الأرثوذكسية للكيان الصهيونى.
قبل أعوام فتح الوطنيون الأرثوذكس فى الأردن وفلسطين شهيتهم على تحرير كنيستهم، وأسعدتهم عودة الدب الروسى إلى المنطقة، لكن روسيا حينها كانت تثبت أركانها، وكانت الحرب فى سوريا مشتعلة، وكان الأمل أن يحدث التناقض الإسرائيلى اليونانى من جهة مع روسيا من جهة مقابلة، بسبب الغاز الطبيعى، ما يجعل من زيارة الرئيس بوتين إلى بيت لحم تحديدا وليس رام الله تحمل رسائل سياسية واقتصادية على الجانب الآخر أن يسمعها.
إن الأهمية الدينية لفلسطين بالنسبة لروسيا ما عادت تقتصر فى العصر الحديث على ذكريات توراتية وإنجيلية عزيزة على الشعب الروسى، فأهمية فلسطين تعدت ذلك إلى مراتب السياسة والاقتصاد، ففيها وعبر محتليها إحدى محاولات العبث مع الدب الروسى عبر الغاز الطبيعى.
فهل يفعلها «المسيح الروسى المنتظر» ويتمكن من تحرير بطريركية الروم الأرثوذكس فى الأردن وفلسطين؟
النص الأصلى