فى المطبخ ست سيدات، يقفن حول طاولة رخامية عالية، يتحركن فى المساحة المشتركة على إيقاع الملاعق ورائحة البهارات. فوق الأطباق إثنتا عشرة يدا، كلها تعمل دون توقف، تفرم البصل، تدق الثوم، تعجن الدقيق بالماء، تقطع الخضار، تحشو الكبة، تلف ورق العنب. ست سيدات بيوت اجتمعن حول طاولة واحدة لطبخ وليمة. لسن صديقات، قد تعرف إحداهن الأخرى لكنهن من خلفيات متباينة، لكل واحدة منهن حياة مليئة بالناس والقصص، بعضها من «قبل الأزمة» وبعضها فيها.
فى المطبخ المشمس وقفت السيدات حول صينية الكبة، تقترح إحداهن إضافة ملعقة من دبس الرمان إلى حشوتها. يتلو ذلك حديث مطول حول حشوة الكبة، هل نكتفى بالبهارات أم نضيف فعلا دبس الرمان؟ هل نكثر من البصل المفروم أم نجعل كمية اللحمة هى الطاغية؟ لكل سيدة طريقتها ولأنهن جميعهن سوريات فلكل واحدة منهن كرامة مطبخية من الصعب زحزحتها عنها عبر اقتراح تعديل بسيط على الطريقة، التى أخذتها على الأغلب عن والدتها وربما حتى عن جدتها.
***
حديث المطبخ عند السوريين كحديث السياسة: نتشاور ثم نختلف، نحتدم فنتمسك برأينا، طبعا لا نضع دبس الرمان فى حشوة الكبة، ما هذا الإختراع؟ نذوق، فنتساءل خفية إن كان من الممكن أن نتنازل قليلا لأن الطعم فعلا أحسن، لكن لا، لنعد إلى البدايات: هكذا كانت أول القصة كما سمعناها من طرفنا، دون دبس الرمان. فى المطبخ، كما فى السياسة، التنوع عظيم، رغم إدراج مطبخنا تحت عنوان عريض هو «المطبخ السورى»، تماما كما بات عنوان «الأزمة السورية» بمثابة كيس الحاوى الذى نرمى فيه التطورات والتحليلات والآراء والتكهنات السياسية.
***
فى المطبخ حيث الست سيدات، يبدو أن «المطبخ السورى» بحد ذاته كفيل بأن يشعل أزمة بأكملها، أو أن يكون أفضل برنامج للحث على التسامح وقبول الآخر والتصالح معه. فمن المدن الكبرى ذات النفوذ الواضح على المطبخ السورى، كحلب ودمشق وحمص، إلى المناطق التى أثرت على المذاق بنكهات وخلطات مختلفة كمنطقة ساحل البحر الأبيض المتوسط بسمكها ومزاجها البحرى، أو الداخل الجبلى بخضاره وفواكهه الملونة أو الداخل السهلى بزيت زيتونه ونكهة سمنه البلدى، إلى جبل الدروز الذى يصر على أن البرغل لا يقل أهمية عن الأرز فى الأفراح، هذا الخليط المتنوع هو أوسع كثيرا من مائدة «المازوات والمشويات» التى يشتهر بها المطبخ المشرقى عموما وكثيرا ما يتم اختزاله بها.
لنتفق على البديهيات، لا مفر من حبيبات الرمان التى يتراقص فوق البقدونس المفروم على وجه الطبق الرئيسى، لا مجال للمساومة على دبس الرمان فى الفتوش، لن نتفاوض حول كمية الثوم فى فتة الدجاج، لن نستغنى عن قطعة واحدة مهما صغرت من الجبنة النابلسية سواء للفطيرة أو للكنافة بعد أن نزيل عنها الملح، لن نقلل من كميات معجون الفلفل الأحمر لطبق المحمرة، ولن نستبدل الخبز المقلى بالزيت بنظيره المحمص داخل الفرن (وبالتالى الأخف على المعدة) فى الفتوش.
***
هناك خطوط حمراء فى المطبخ كما فى المفاوضات السياسية، وهذه نتيجة تصل إليها السيدات الست بعد جولتين من التشاركية فى العمل. أما بالنسبة للتنازلات الممكنة، فقد أصرت الساحلية على أن تزيد من كمية عصير الليمون فى ورق العنب، ووافقت الحمصية على التقليل نوعا ما من الدهنة فى الكبة مقابل عدم التنازل عن السمنة فى فطيرة اللحمة المضفورة. السيدة الحلبية التى لم تتكلم كثيرا فى بداية المفاوضات، إنما انتظرت أن تنتهى السيدات من النقاش، دخلت بجملة واحدة مفادها أن لعروس الشمال وملكة المطبخ حلب خصوصيتها الثقافية، حيث المجتمعان الأرمنى واليهودى (قبل أن يرحل) قد أرسيا قواعدهما فأغنيا المطبخ الحلبى، وهى (أى السيدة الحلبية) إما أن تدخل بكل فصائلها إلى النقاش أو تنسحب. نظرت السيدة الهادئة والتى بدا من خضرة عينيها أنها من الجبل إلى الأخريات، وطلبت منهن التحلى بالصبر، وعدم الانجراف وراء مطالب من الصعب تحقيقها جميعها فى يوم واحد. لنركز على الأولويات، تقول السيدة الجبلية، ماذا سنصنع اليوم وكيف نقسم العمل فيما بيننا؟
تهدأ المجموعة، فعينا السيدة الصافيتان وحمرة وجنتيها أعادت الأخريات إلى ليلة صيف خفف نسيمها البارد من حره، تجلس السيدات الست على كراسى مصنوعة من الخشب والقش فى ساحة القرية بعد عرس الموسم، حيث تزوج ابن المختار من ابنة صاحب كرم الزيتون فى بلدة هى أقرب إلى البحر من القرية. كان هذا العرس حدث انتظرته القرية منذ أن أعلن المختار بحذر أن ابنه سيتزوج من خارج القرية. لم يناقش أحد تبعات زيجة كهذه على هوية القرية، ولم يتحدث أحد فى اختلاف العادات بين أهل الجبل وأهل الساحل. السيدات الست جميعهن من خارج هذه القرية لكنهن جميعا متزوجات من رجالها، لذا فقد كن فى قلب الحدث من حيث تحضير النفسيات والموائد إلى أن جاءت الليلة المنتظرة.
***
«وهيك شفنا أنه ما فى مشكلة أبدا إذا الليمون كان زيادة بالتبولة، أصلا أهل العروس بحبوا الليمون الكتير»، تقول إحداهن. «مزبوط بس مو كل شى متل ما بدها العروس، اللحمة عملناها على طريقتنا فى القرية حتى تعرف من الأول كيف نحنا منطبخ» تقول الثانية.
تبتسم أكبر السيدات سنا فتظهر غمازة على خدها الأيمن، تنظر إلى صديقاتها الواحدة بعد الأخرى وتقول: «المهم نكون مبسوطين، الباقى تفاصيل، إلا طبعا معلقة السكر فوق الفتوش، هيْ ما فيها تنازل».