لست مضطرا لأن تكون اقتصاديا كى تدرك أن الاقتصاد المصرى يواجه صعوبات، فكل مواطن يمكنه الشعور بذلك فى حياته اليومية، والأمر الأكثر صعوبة هو إمكانية التنبؤ بما يمكن أن يحدث إذا لم يتم اتخاذ إجراءات سياسية شاملة بسرعة، ولذلك فهذه بضعة آراء متعمقة يمكن أن تفيد، (أما رأيى بشأن الحلول سوف يكون موضوع أحد مقالاتى التالية لـ«الشروق»).
عندما تحاول تبسيط ما هو فى الأصل معقد، يتضح أن الاقتصاد المصرى فى الوقت الراهن يعانى فى الأساس من مشكلتين أساسيتين، أولهما، وجود صعوبة جمة فى توليد ما يكفى من النمو الاقتصادى وخلق فرص عمل وفيرة للشباب والسكان الذين يتزايد عددهم،. والمشكلة الثانية هى أن النمو والدخل القومى المتولدان مازالا يفيدان بشكل كبير الشرائح الميسورة من السكان.
هذه المشكلات ليست جديدة، فهى تعكس عقودا كثيرة من الاستثمارات المضللة، والحوكمة الاقتصادية السيئة، كما أنها تعود إلى الاهتمام غير الكافى بتنمية الموارد البشرية وتوجيهها وتعزيزها وهو ما يعد إلى الآن أهم وأكبر محرك للنمو والتوظيف والرخاء والفرص الاجتماعية.
وبينما كان يمكن للأغنياء الحصول على خدمات التعليم والصحة الخاصة، فقد كان الآخرون يئنون من الحصول على الخدمات الأساسية على نحو غير ملائم، كما كانت الفرص المتاحة أمامهم محدودة جدا، الأمر الذى قضى على الحراك الاجتماعى شديد الأهمية لأى مجتمع ديناميكى ومزدهر.
لقد تفاقمت هذه التحديات المحلية بسبب التقدير غير الكافى للطريقة التى يمكن بها لمصر الاستفادة من إعادة الاصطفاف الاقتصادى العالمى، فعلى عكس الكثير من الاقتصادات الآسيوية، فشلت مصر فى استغلال التجارة الدولية وغيرها من الروابط الاقتصادية والمالية لرفع قدرة النمو الداخلى الخاصة بها.
هذه المشكلات التى طال أجلها أبرزتها ثلاثة وقائع جارية: ثورة مصر غير المكتملة، بما فى ذلك المحور البطىء من تفكيك الماضى القمعى إلى بناء مستقبل أفضل للجميع، والمخاوف التى لا تزال قائمة بشأن الوضع الأمنى الداخلى الذى يعوق الاستثمار والسياحة، بالإضافة إلى تقويض جودة الحياة، والركود الذى تشهده أوروبا التى تشكل أكبر سوق خارجية لمصر ويخلق بالتالى تراجعا آخر للطلب بالنسبة للاقتصاد القومى الذى يكافح بالفعل.
وحتى الآن لا يبدو أن الحكومة تبذل جهدا للتعامل بطريقة معقولة مع خطورة الوضع، كما أنها لم تضع خطة اقتصادية شاملة مجدية ومرغوبة، وليس هناك وعى قومى كاف، وفى الوقت نفسه مازالت الاضطرابات الناتجة عن النمو غير الكافى وغير المكتافئ تموج فى الاقتصاد.
أول أثر كبير يتم الشعور به نتيجة تلك المشكلات هو عدم القدرة على خلق فرص العمل، فى القطاعين الرسمى وغير الرسمى، ونتيجة لذلك تصاب مكاسب الأسر، التى هى ضئيلة بالفعل فى حالات كثيرة، بضربة جديدة، وفى بعض الحالات شديدة الإزعاج، تتحول بعض الأسر إلى الفقر المدقع دون أى ذنب من جانبها.
ثانيا: ترتفع أسعار سلع أساسية ضرورية للشعب المصرى، وهذا الأمر مدمر لأنه يصيب بقوة الشرائح الأكثر تعرضا للخطر من السكان.
ثالثا: تتعرض ميزانية الحكومة لضغط من الإيرادات الأقل والمطالبات الأكثر الخاصة بالإنفاق، ويتضح هذا العبء الذى يشعر به جزء كبير من المجتمع المصرى.
وأخيرا: بينما يؤدى الإنتاج الأقل إلى صادرات أقل وإحلال أقل للواردات، ومع انخفاض أرباح السياحة بكثير عن المحتمل، يعانى أيضا ميزان المدفوعات المصرى من الضغط، وكذلك قيمة العملة المحلية.
وما يجعل هذه العوامل الأربعة أكثر إزعاجا هو أنها يمكن أن تعزز كذلك دوائر التغذية الاسترجاعية السلبية التى يصعب كسرها. بعبارة أخرى، الأثر السلبى التراكمى لـ1+1+1+1 أكبر بكثير من 4.
ويشعر البعض أن هذا الوضع سوف يؤدى إلى انهيار اقتصادى ومالى مصرى مذهل من النوع الذى شهدته تايلاند وبعض جاراتها الآسيويات فى 1997ــ1998، وروسيا فى عام 1998، والأرجنتين فى عام 2001، أما أنا فلا أعتقد أن هذا هو الحال.
ومع أن سيناريو الانهيار هذا ليس مستحيلا تماما، فهو ليس النتيجة الأرجح، ذلك أنه لافتقار مصر إلى حل سياسى شامل ويأتى فى حينه، فهى من الأرجح أن تواجه احتمال استمرار النمو غير المناسب والتضخم المرتفع، أو ما يسميه الاقتصاديون الركود التضخمى (الركود الذى يصاحبه تضخم)، وسوف تظل فرص الدخل شديدة الانخفاض لسنوات كثيرة جدا، مع استمرار معدل البطالة المرتفع، وسوف يرتفع معدل التضخم ويزيد الفقر.
هذه هى مصر التى سوف يتم فيها فرض القيود لتقنين وتوزيع بعض السلع والنقد الأجنبى، ومع أن تلك القيود تستهدف حماية الأهداف الاجتماعية المهمة، فمن المحتمل أن تشجع كذلك عودة واسعة النطاق للسوق السوداء والمبالغة فى الأسعار وتخصيص الموارد الذى يتسم بقدر كبير من عدم الكفاءة، وأثناء ذلك، من الممكن أن يظهر إما الحرس القديم أو طبقة طفيلية جديدة، الأمر الذى يهدد بالاستيلاء على العائدات القومية التى جرى تمكينها من خلال ارتباط «خاص» بالسلطات القائمة.
وبدلا من دفع مصر إلى الأمام وتلبية طموح الثورة المشروع، سوف يخدم هذا دفع البلاد إلى الوراء فى اتجاه نماذج النمو التى ثبت أنها على قدر كبير من عدم الفاعلية، وبالتالى يجعل الحلول اللاحقة أكثر صعوبة.
والآن هناك بارقة أمل فى هذا الوضع الذى يتسم عموما بالإزعاج، فأى من مكوِنات هذا السيناريو المستقبلى لا يعمل بطريقة ذاتية، وليس منها ما هو محتوم، ذلك أن مصير مصر الاقتصادى بالكامل فى أيدى شعبها وحكومتها.
وغالبا ما يقال إن أول جزء من الحل هو الفهم الصحيح لطبيعة المشكلة، ومع ذلك فإنه بعد عامين ونصف تقريبا من ثورة الخامس والعشرين من يناير، لم تدخل بعد الشخصيات السياسية المصرية البارزة بعد بشكل جماعى فى حوار وطنى صادق بشأن الاقتصاد. والحال كذلك، فإن طبيعة التحديات الاقتصادية لا يقدرها المواطنون التقدير الكافى، فما زال هناك سوء فهم لمقدار ومجال الريح المعاكسة المستقبلية، كما لم تناقَش عناصر الحلول وتصاغ وتوصَل بالشكل الصحيح.
لقد حان الوقت للتغيير، وهذا أمر ممكن وينبغى حدوثه، وكلما جرى ذلك بشكل أسرع كان مجال المستقبل الأكثر وعدا وازدهارا لكل المصريين أكبر.