أقمت علاقة مع لعبة كرة القدم كالعلاقة التى أقمتها مع الفيسبوك والتويتر، علاقة سطحية لا التزام لطرف فيها تجاه الطرف الآخر. لا أمانع فى أن أراها تمارس أمامى، ولا أدقق فى التفاصيل ولا يبقى فى ذاكرتى بعد الممارسة كثير أو قليل ليذكرنى بما حدث.
•••
استجد جديد فى عائلتنا دفع بلعبة كرة القدم إلى طليعة اهتماماتها. بيننا شاب كان حتى الأمس طفلا، أو هكذا كنت أراه وأتعامل معه. كنت أسمع أنه يلعب الكرة فى مدرسته ويتدرب فى أحد الأندية الكبيرة. لم أعر الأمر اهتماما كبيرا إذ كنت واثقا من أن البيئة التى نشأ وينمو فيها أطفال عائلتنا ما زالت طاردة للرياضة والرياضيين.
فوجئت منذ أيام بالشاب ــ الطفل يأتى مودعا، فقد تلقى دعوات من نوادى فى ألمانيا وهولندا، لإجراء اختبارات عملية تؤهله للانضمام إلى فرق الشباب فى تلك الأندية. عرفت أيضا أن القائمين على شئون التدريب فى هذه النوادى قرروا توجيه الدعوات بعد أن شاهدوا طفلنا وهو يلعب فى مسابقات المدارس والأندية المصرية.
ابتعدت متعمدا سنوات بل عقودا عن لعبة كرة القدم، فإذا بها تتسلل إلى عقر دارنا لتختطف أحد أطفالنا. أعرف أنهم سيعرضون عليه ما لن يقوى على رفضه، ولكنى أعرف أيضا، وهذا يطمئن بعض الشيء، أنهم يشترطون عليه وعلى أقرانه الاستمرار فى الدراسة، ويشترطون أيضا أن يتفوق فيها.
•••
حدث هذا التطور فى العائلة قبل انطلاق مباريات كأس العالم فى البرازيل. كان لابد أن ينعكس هذا التطور المفاجئ على أولويات اهتمامنا. رأيت الكبار قبل الصغار وقد استعدوا لممارسة المشاهدة منقسمين شيعا ومذاهب وملتهبين حماسة. أما أنا فرحت أشغل نفسى عن الصراخ والتشجيع بالبحث فى غرائب هذه اللعبة وطبائع هواتها ولاعبيها ومديريها، وفى إبداعات كبار المعلقين والمؤرخين الرياضيين.
أثار اهتمامى، بشكل خاص، تقرير نشرته مجلة هاولر بقلم بنجامين هيلى تحت عنوان «أربع عشرة طريقة للنظر إلى حارس المرمى».. لم أكن أعرف عن المشاعر الغريبة التى يحملها للكرة حارس المرمى، ولكن قد سمعت عن الألقاب والصفات التى أطلقها المعلقون على بعض أشهر حراس المرمى فى العالم. أطلقوا مثلا لقب الستار الحديدى على حارس للمرمى ذاع صيته خلال الحرب الباردة، وألقوا على حارس آخر لقب «هرقل الصغير الواقف دائما»، و«على حارس ثالث، راقص باليه بأيدٍ من الصلب».
تحكى الأسطورة أن كل لاعب كرة بدأ حياته الكروية حارسا لمرمى. كان مسموحا حتى عام 1863 للاعب الكرة أن يلتقط الكرة بيديه بشرط ألا يطول احتفاظه بها وكان لحراس مرمى مشهورين الفضل فى تطوير مساحاتهم وقواعد اللعب ومكانتهم. قال أحدهم عن أهمية حراس المرمى، «بعض الدول اشتهرت بإنتاج أشياء متميزة، سويسرا اشتهرت بالساعات وايطاليا بالسيارات، أما بريطانيا فاشتهرت بحراس المرمى». وقد أثار هذا القول حفيظة حراس المرمى فى كل مكان خرج كثيرون منهم يعلنون أن بلادهم هى أفضل من أنتج حراس مرمى.
يقال فى أمريكا الجنوبية عن حراس المرمى أن أغلبهم مصاب بلوثة عقلية، وفى قول مكمل أو محسن، أن هذه اللوثة سبب نجاحهم. نقلت الصحف عن حارس مرمى متقاعد تصريحا قال فيه إنه كان يطلب من زوجته أن تقضى الساعات الطوال تلقى عليه ثمار الفاكهة ليتدرب على التقاطها، وفى وقت راحتها كان يتدرب على الاصطدام بشدة بأعمدة وجدران خشبية فى سمك عمودى الشبكة على جانبى المرمى.
ومع ذللك كان حارس المرمى دائما كبش الفداء. يحكون عن حارس المرمى البرازيلى الشهير باربوسا الذى خسر فريقه كأس العالم فى 1950، أنه عاش أواخر أيامه فقيرا، وبينما هو يتسول فى أحد الأحياء رأته سيدة عجوز فقالت لابنها: «هذا هو الرجل الذى جعل كل البرازيل تبكي». وفى عام 1993، أى بعد أربعين عاما من هزيمة فريقه أمام الأورجواى سجلت له محطة BBC حديثا تحدث فيه عن العذاب الذى يلاقيه بسبب هزيمة فريقه فيقول «فى البرازيل تصل أقصى عقوبة إلى ثلاثين عاما، أما عقوبتى فقد تجاوزت الخمسين».
يحكون أيضا أن ضبابا كثيفا هبط على ملعب كرة، مما دفع الحكم إلى وقف المباراة والإذن لللاعبين بالخروج من أرض الملعب. إلا أن أحدا لم يكلف نفسه مهمة إبلاغ حارس المرمى الذى استمر واقفا ينتظر هجوم الفريق الآخر لمدة ربع ساعة، حتى جاءه رجل شرطة فسأله عما يفعل فى هذا المكان وقاده إلى غرف اللاعبين.
•••
قضيت وقتا طيبا مع حكايات عن لعبة كرة القدم، وكان أيضا وقتا مفيدا. تذكرت أن أحد أفراد فريق الحى الذى نشأت فيه كان يصر على أن يكون حارسا للمرمى إن صحت تسمية حجرين منتصبين على الجانبين والمسافة التى تفصلهما مرمى. كان شابا وسيم الطلعة فارع القوام أسمر اللون، لا يبتسم إلا قليلا، شديد الانضباط ومحل تقدير بتواضع جم..
تركنا الحى وسافر منا من سافر بعيدا وطويلا. عدت ألملم الشتات وأسأل وأتقصى. عرفت أن صديقنا حارس المرمى صار فى القمة، أو قل عند القمة، قمة السياسة طبعا وليس قمة لعبة الكرة.
كان حارسا لمرمى فريقنا المتواضع حين التقيته قبل رحيلنا، وكان حارسا لأمة عريضة حين رأيته عن قرب بعد عودتنا.