التزام الإنسان بهذه الثورة ورغبته فى نجاحها كالتزامه بالوطن ورغبته فى أن يزدهر. وحين قرر أبناؤنا وإخواننا أن ينزلوا إلى الشارع مضحين من أجل «الحرية والكرامة الإنسانية» فقد تخطوا محاولات النظام السابق أن يجعلوا طموحاتنا الحيوانية تغلب حقوقنا الإنسانية. كان ينبغى أن تتوحد إرادتنا على مستقبل أفضل، وقد توحدت. وكان ينبغى أن تكون هناك آلية تصحيح ذاتى لأخطاء الثورة، وها هى تُصَحح. وكان ينبغى أن تكون حكومة الثورة معبرة بحق عن طموحات الثائرين، وها هى يُعاد تشكيلها.
ولو كان لى أن أقحم القارىء الكريم فى أمر خاص، وهو أننى فى أكثر من مرة أخرج محبطا أو ربما مغضبا من مقر مجلس الوزراء وشعرت فى غير مرة أن هذه الحكومة لن تستطيع أن تفعل الكثير مما نريده، وأن المنطقى أن يترك أحدنا مكانه لمن هو أفضل منه. ولكن كنت دائما أجد من أساتذتى وزملائى من يقولون لى البدائل غير مضمونة، والأفضل أن نجتهد فيما هو متاح لأن المستقبل قد يحمل لنا ما لا نطيق.
وأتذكر تحديدا جلسة جمعتنى بثلاثة من أساتذتى الذين ما علمت فيهم قط أنهم يغلبون مصلحة شخصية أو فئوية أو حزبية على مصلحة الوطن، وقلت لهم أفتونى فى أمرى. وكان الرد بالإجماع أن الاختيار واضح: «لو أردت بطولة شخصية، فاهرب. ولو أردت خدمة للوطن، فهى معركتنا جميعا كل فى موقعه، وعلينا أن نخوضها، ولنحاول مرات ومرات، مهما نالك من الأذى. أما وقد طالبنا بالثورة، فعلينا أن نتحمل تبعاتها. وقد كان، ولم أملك حينذاك إلا أن أتصرف بمنطق «أغنية على الممر».
ما يتم هذه الأيام فى الحكومة، كان ينبغى أن يتم منذ شهر ونصف الشهر. وقد كانت العدة معدة لهذا آنذاك. وكان فريق المستشارين يتصرف على هذا الأساس. ولكن الإرادة السياسية العليا كان لها رأى آخر. وكان كم الإحباط غير طبيعى ألا تستطيع أن تقنع غيرك بحرج الموقف وبالحاجة للتعديل من أجل ترجمة الثورة، مبادئها وأهدافها، إلى إجراءات وقرارات عبر فريق عمل متكامل قادر على النهوض بهذه المهمة الثقيلة: مهمة إنقاذ وطن وإعداده للانطلاق.
أيا ما كان تقييم حضراتكم للوضع الراهن وللحكومة الجديدة، فلنعطها الفرصة كاملة؛ فهم بالفعل من خيرة من يمكن لنا أن نستوزر فى مواقعهم.
أما أنا، فأريد أن أعود من حيث جئت، أعود إلى ثكناتى الأكاديمية والإعلامية متمنيا للفريق الجديد كل التوفيق، واثقا أن رئيس وزراء مصر لم يعد بحاجة لمستشار سياسى بعد أن جاء له أساتذتى الذين طالما قرأت لهم وتعلمت منهم وكنت أحلم باليوم الذى يُمَكّن لهم فيه كى يقودوا سفينة الوطن. وأخيرا سأتخلص من عهدة «اليو اس بى مودم» التى علىّ.
أعتذر لكل من أحبطه فى يوم ما موقف اتخذته، أو أغضبه رأى قلته، فمن دخل المطبخ واكتوى بناره وشهد تفاصيله سيكون له رأى ورؤية مختلفان عمن لم يدخله قطعا. ولكن يبقى بينى وبين قراء «الشروق» الكرام عهد التزمت به وهو أننى لم أكن قط أتاجر بمواقف أو أزايد على أحد أو أقلل من قيمة أحد. وكما كتبت ذات مرة: تجادل العظيمان أبوبكر وعمر بشأن حروب الردة، فمال الشديد عمر إلى اللين، ومال الليّن أبوبكر إلى الشدة، ولكنهما فى النهاية التقيا بعد أن أفرغ كل منهما أمانة الاجتهاد وقوة الحجة والمنطق، وكانت شدتهما فى الحق شِدَّتَين.
ولتكن شدتنا جميعا، حكومة وشعبا، فى خدمة الوطن شدتين.