اليونانيون فى السينما المصرية - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:41 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اليونانيون فى السينما المصرية

نشر فى : الإثنين 18 يوليه 2022 - 9:35 م | آخر تحديث : الإثنين 18 يوليه 2022 - 9:35 م

يتراءى الوجود اليونانى فى مصر، تاريخيا، كما لو كان مرتهنا بأزمات وأوضاع مضطربة، تلقى بظلالها على المجتمع اليونانى، وتدفع بمواطنيه للبحث عن حياة أفضل، فى أصقاع لا يكابد اليونانيون فيها ويلات الاغتراب. فقديما تقاطر اليونانيون إلى مصر، إثراشتداد وطأة العصور المظلمة اليونانية، خلال الفترة من 750 ــ 1100ق.م. وفى مطلع القرن التاسع عشر أسهم توجه محمد صوب أوربا، فى سياق مشروعه النهضوى لبناء مصر الحديثة، فى زيادة التدفقات البشرية اليونانية إلى مصر، حتى تأسست بالقاهرة عام 1856 أول جماعة يونانية منظمة، كنواة لخمسة عشر مجتمعا يونانيا عمت ربوع البلاد. الأمر الذى دفع اللورد كرومر، المندوب السامى البريطانى نهاية القرن التاسع عشر، للقول: «أينما حركت حجرا فى مصر وجدت تحته يونانيا». أما حديثا، فقد أفضت الأزمة الاقتصادية التى عصفت باليونان، إبان الحرب العالمية الثانية، إلى حمل زرافات من مواطنيها على الهجرة إلى مصر، ليصل تعداد الجالية اليونانية إلى 400 ألف، فى خمسينيات القرن الماضى، قبل أن يتراجع إلى أقل من 200 ألفا فى سبعينياته، جراء سياسات التأميم والمواجهات المسلحة مع إسرائيل، ليتجمد عند خمسة آلاف فقط هذه الأيام.
على مستويين جاءت مشاركة المبدعين اليونانيين فى صناعة السينما المصرية. أولهما، أمام الكاميرات، عبر أداء أدوار أساسية، أو ثانوية، أو تقديم الاستعراضات الغنائية الراقصة. وثانيهما، خلف الكاميرات، من خلال العمل كمهندسين للصوت، أو فنيين إضاءة، أو اختصاصيين للمونتاج، أومؤلفين وملحنين للموسيقى التصويرية، مثلما تجلى فى تراث الموهوبين اليونانيين من بصمات فنية خالدة ضمن مدرسة الاسكندرية السينمائية، طيلة سنى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى.
وقد تقاسمت الممثلة «نينى قسطنتينو»، مع الممثل «اريستيدس خاتزياندرباس»، قصب السبق كأول وجوه فنية يونانية تطل على الشاشة الفضية المصرية. ومن بعد ذلك، ظهر الفنان، جورج يوردانيدس، الذى تتلمذ على يد الرائد نجيب الريحانى، وبرع فى تجسيد شخصية «النادل الخواجة»،التى شارك، من خلالها، فى عدد من الأعمال السينمائية اللافتة أبرزها: «بنت العمدة» عام 1949، و«كأس العذاب»، و«أرض الأبطال»، و«مليون جنيه»، و«السبع بنات»، و«الفانوس السحرى»، و«سر طاقية الإخفاء»، «بين السماء والأرض»، «حسن وماريكا»، و«قصر العذاب»، و«المعلمة»، و«إحنا التلامذة»، و«جميلة»، وغيرها. كما شارك فى العديد من الأفلام اليونانية، منها: «العانس»، و«إيقاظ يوم الأحد» عام 1954. وعندما وافته المنية عام ٢٠٠٥، وورى الثرى فى مصر.
أما «كاترين فوتساكى»، التى اشتهرت كراقصة وممثلة باسم «كيتى»، فكانت أول يونانية تنتزع لنفسها مساحة مبهرة على شاشة السينما المصرية، التى ولجتها من باب الاستعراضات. وقد استرعت موهبتها انتباه العبقرى نجيب الريحانى، حتى ضمها إلى فرقته، وأسند إليها دورا فى مسرحية «الحظوظ» .وشاركت كيتى فى أربعة وأربعين فيلما، كان أولها «جزيرة الأحلام»،الذى كتبه وأنتجه حسين سرور، عام 1951. إلا أن شهرتها الفنية، سواء كراقصة أو ممثلة، قد بلغت ذروتها، مع مشاركتها فى معظم أفلام أيقونة الكوميديا إسماعيل ياسين، وخاصة بطولتها لسلسلة أفلام «إسماعيل ياسين فى متحف الشمع»، و«إسماعيل ياسين فى مستشفى المجانين»، و«عفريتة إسماعيل ياسين».
على ذكر نجوم الظل اليونانيين خلف كاميرات السينما، يبزغ رائد الموسيقى التصويرية، أندريا رايدر، الذى يعد من أهم رواد الموسيقى التصويرية العربية. فقد حصل على الجنسية المصرية عام 1955، واعتنق الإسلام، وتتلمذ على يد الموسيقار منير مراد. ويحسب لرايدر، أنه كان ضمن الرواد الذين قاموا بتأليف الموسيقى التصويرية للأفلام، خصيصا، لتحريرها من هيمنة «منتخبات الموسيقى العالمية». فقد اضطلع بتأليف الموسيقى التصويرية لعدد هائل من الأعمال السينمائية الخالدة، أبرزها: «دعاء الكروان»، «اللص والكلاب»، «الرجل الثانى»، «مذكرات الآنسة منال»، «نهر الحب»، «بين الأطلال»، «النظارة السوداء»، «غروب وشروق»، فضلا عن العديد من المقطوعات الموسيقية. وقام رايدر أيضا بالتوزيع الموسيقى لعديد من مطربى العصر الذهبى مثل محمد عبدالوهاب، وفريد الأطرش، وعبدالحليم حافظ. ولطالما تميزت موسيقاه بأسلوب المزج بين الآلات الشرقية والأوركسترا السيمفونى بانسيابية ورهافة لا تخطئها الأذن، حتى سار على دربه أكثر من ملحن وموزع موسيقى، أبرزهم على إسماعيل وعمر خيرت. وقبيل وفاته عام 1971، اعتُمد ملحنا فى الإذاعة المصرية، وحصل على وسام الاستحقاق فى الفنون. وأثناء احتفال السينما المصرية بمئويتها عام 1996، اختير كأهم مؤلف موسيقى سينمائى.
فى مجال تجهيز الاستديوهات السينمائية، برز اسم «ميخالى كاتساروس»، الذى أقنع والده بتحويل جراج يمتلكه بوسط القاهرة، إلى بلاتوه للتصويرالسينمائى، إيمانا منه بتعاظم الأهمية الاقتصادية لصناعة السينما. وفى عام 1944، جاءت المساهمة الأكبر فى هذا المضمارعلى يد اليونانيين «أفابخلوس أفراموسيس»، و«باريس بيلفيس»، عندما أسسا «ستوديو الأهرام»،على مساحة قدرها 27000 م2، اشتملت على ثلاثة بلاتوهات، وصالة عرض، وأخرى للدوبلاج، ومعمل للتحميض والطبع. وقد لعب هذا الاستوديو دورا رائدا فى إثراء الحركة السينمائية المصرية، إذ تم تصوير الكثير من الأفلام فى بلاتوهاته، حتى غدا منذ ذلك الوقت، وحتى زمن ليس بالقصير، أضخم ستوديو سينمائى فى البلاد، بعد ستوديو مصر.
على صعيد الإنتاج السينمائى، تلألأ اسم المخرج اليونانى كوستانوف، الذى يعد أول يونانى يغامر بدخول هذا المعترك عام 1932، عندما قام بإنتاج وإخراج فيلم «جحا وأبو نواس»، تمثيل خالد شوقى، وعلى رفقى، الذى شارك فى الإنتاج. وفى عام1951 أنشأ اليونانى أشرف بترو زربانلى شركة «الهلال»، التى أنتجت11 فيلما، وقامت كذلك بتوزيع أفلام من إنتاج شركات أخرى. وطوال سنى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى، تأسست العديد من شركات للتوزيع والإنتاج، كان اليونانيون عمادها. واعتقادا منهم فى أهمية دور العرض السينمائى، باعتبارها أضمن نشاط مربح فى صناعة السينما، وقتئذ، هرع اليونانيون إلى امتلاك أكبر عدد ممكن من تلك الدور، حتى بات بحوزتهم أكثر من 80 % من دور العرض المنتشرة، حينئذ، فى مختلف أصقاع القطر المصرى، مثل: أوليمبيا، وإيديال، ورويال، وريكس، وستراند، وميامى، وديانا، والتى لا تزال غالبيتها موجودة، حتى يومنا هذا.
بين طيات دراسته، التى أصدرها مركز الفنون السينمائية بمكتبة الإسكندرية عام 2003، يشير المستشار الثقافى اليونانى الأسبق لدى القاهرة، ينى ميلاخرينودى، إلى أن مشاركة اليونانيين فى النشاط التمثيلى بالسينما المصرية، ربما لم تكن بمستوى إسهامهم فى المجالات التجارية والتقنية والإبداعية الأخرى، المتعلقة بصناعة الفن السابع، كالتصوير، والإنتاج، والتوزيع، وبناء الاستوديوهات، ودور العرض. وإلى أبعد من ذلك، ذهب خرينودى، حينما أكد أن إسهامات اليونانيين المقيمين بمصر، فى إثراء صناعة السينما المصرية، بمختلف جوانبها وأبعادها، قد فاقت مثيلاتها فى بلدهم الأم اليونان. ويرجع ميلاخرينودى تلك الظاهرة المثيرة للبحث إلى أمرين؛ أولهما: الأوضاع السياسية والاقتصادية غير المستقرة فى اليونان خلال النصف الأول من القرن العشرين، مقارنة بما كانت عليه مثيلاتها فى مصر حينها، والتى كانت أفضل نسبيا. وثانيهما: ارتباط اليونانيين الوثيق بمصر، إلى حد اعتبارهم إياها بمثابة وطنهم الأم، وليس بلدهم الثانى.
وقد عكس الحضور اليونانى المؤثر فى السينما المصرية، مدى الالتحام الوثيق من قبل أبناء الجالية اليونانية داخل نسيج المجتمع المصرى. ففى جل الأفلام، كان اليونانى، فى الغالب، بقالا نبيلا، أوصديقا وفيا، أو شريكا متعاونا، أو جارا ودودا. ولطالما تضمنت أفلام شتى قصص حب بين مصريين ويونانيات، انتهت أحيانا بالزواج. وفى فيلم «سلامة فى خير»، الذى أخرجه، نيازى مصطفى عام 1937، جسدت اليونانية «مدام جريس»، شخصية «أم ينى»، الجارة الطيبة والصديقة الصدوقة لعائلة شخصية الفيلم المحورية «سلامة»، الذى جسدها، نجيب الريحانى. ولم تستنكف المرأة اليونانية أن تشارك جارتها المصرية فى مصابها الأليم باختفاء زوجها، ومصاحبتها فى البحث عنه أينما ذهبت، بل ومشاطرتها الاستعانة بأهل البيت ليعود سالما. ففى حين استجارت «ستوتة»، زوجة «سلامة»، التى جسدت دورها القديرة «فردوس محمد»، بالسيدة «زينب»، ناشدت «أم ينى»، الحسين، راجية:«إنشا الله يرجع يا سيدنا ياحسين». وفى فيلم «عنتر ولبلب» لسيف الدين شوكت 1952، كان اليونانى البقال صديقا للبطل «شكوكو»، ومؤازرا له فى صراعه ضد خصمه. وقد ترك الفنان المصرى فؤاد راتب بصمة لافتة بتجسيده دور الخواجة اليونانى، من خلال الشخصية الكوميدية «الخواجة بيجو»، فى أفلام «عروس النيل»، «حماتى ملاك»، «شارع الحب»، و«إسماعيل يس فى مستشفى المجانين».
تنبلج الجذورالتاريخية للدراما الحديثة من إرهاصات إبداعية مصرية يونانية، خلدتها متون ومسارح المصريين القدماء، وألهمتها الأساطير اليونانية، فيما نظَر لها أرسطو فى كتابه الشهير «فن الشعر»، بتأكيده أن المحاكاة أصل الفنون. ولقد أحسنت إدارة معرض القاهرة الدولى للكتاب، صنعا، حينما عمدت، خلال دورة المعرض الأخيرة، إلى إنعاش واستنهاض التاريخ الحضارى المديد والمشترك بين مصر واليونان، من خلال الاحتفاء باليونان، عبر اختيارها ضيف شرف يتصدر مختلف فعالياتها، من ندوات ثقافية، ولقاءات فكرية، وعروض فنية. أما عشاق الفن السابع فى مصر واليونان، فلا تزال أبصارهم شاخصة تلقاء تعزيز الوشائج الثقافية بين البلدين، باعتبارها ركنا من أركان شراكتهما الاستراتيجية المتنامية. بحيث يكللها إنتاج سينمائى مشترك، يليق بعراقة وعمق التجربة السينمائية لدى البلدين، ويجسد خصوصية علاقة التلاقح الحضارى الملهم، التى جمعت شعبيهما، على مر العصور.

التعليقات