فى 19 يونيو عام 1930، صدر مرسوم من الملك فؤاد الأول بتشكيل وزارة إسماعيل باشا صدقى، الذى استهل حكمه بإلغاء دستور 1923، وتعطيل الحياة النيابية بحل مجلسى النواب والشيوخ وإعلان دستور 1930، ضاربا عرض الحائط بالاحتجاجات السياسية والشعبية.
استعان صدقى على فرض حكمه بالعنف والقوة والبطش بمعارضيه، على حد تعبير المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى، وعرف عهده بعصر «تكميم الأفواه» حيث عمل على إسكات الصحافة وحصارها عبر تعديل مواد العقوبات فى قوانين الصحافة والمطبوعات، فوضع أحكاما مشددة فى الجرائم التى تقع بواسطة النشر، تصل فى بعض الأحيان إلى 5 سنوات سجن مع الغرامة، وقنن تعطيل الصحف وإلغائها، وأحيل فى عهده مئات الصحفيين إلى المحاكمات والسجون.
كل هذا لم يردع صحافة مصر أو يخضعها، بل خاضت «صاحبة الجلالة» فى عهده معركة وصفها صديقنا محمد توفيق فى الجزء الثانى من كتابه «الملك والكتابة.. حب وحرب وحبر» بأنها «أم المعارك».
وخلال معركة «السلطة والصحافة» كتب محمد توفيق دياب صاحب ورئيس تحرير جريدة «الجهاد» مقاله الشهير «لا طاعة لحاكم فى معصية الدستور»، وجاء فى متن المقال: اسمعوا واعلموا علما يقينا لا خفاء فيه ولا رياء، أن هذا الدستور لو هدمه الهادمون مرة أخرى، فإن الأمة ستقيم صرحه من جديد".
ونقل توفيق فى الجزء الثانى من كتابه «الملك والكتابة.. حب وحرب وحبر» الذى يروى فيه حكايات وفصول من قصة السلطة والصحافة فى مصر من عام 1900 إلى عام 1949، نقل معركة أخرى بين «صاحبة الجلالة» والسلطة، كان بطلها هذه المرة هو الكاتب والأديب والنائب عباس محمود العقاد، الذى تمرد على قرار تعطيل حكومة صدقى للحياة النيابية، وقال تحت قبة البرلمان: «فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته»، فدوى فى القاعة تصفيق حاد من الحضور.
وفى اليوم التالى نشرت جريدة السياسة لسان حال حزب الأحرار الدستوريين كلمة العقاد، فأحيل إلى المحاكمة بتهمة العيب فى الذات الملكية، وذكر رئيس النيابة فى التحقيقات عناوين عدة مقالات تؤكد هذا الاتهام منها: «لا لاستعباد مصر وتعذيبها»، و«الرجعيون والإنجليز»، و«سيعدل الدستور ولكن كيف»، و«الرجعية هى العدو الأكبر فى الأزمة الدستورية».
وأشارت النيابة إلى أن المقالات المنشورة تمثل جرما كبيرا فهى تمس أكبر رأس فى الدولة، وتصدى الزعيم المحامى مكرم عبيد للدفاع عن العقاد وقال فى مرافعته أمام المحكمة: «الواقع أن هذه القضية التى تدور بين النيابة والأستاذ العقاد هى فى الحقيقة بين الرجعية والدستور»، موضحا أن ما عناه العقاد بعبارة «أكبر رأس» هى الوزارة الحالية كما هو ظاهر من مقالاته والحكومة خافت من تلك المقالات فحاولت إسكاتها بتعطيل الجرائد التى يكتب فيها العقاد، كما عطلت غيرها من الجرائد.
حكم على العقاد فى تلك القضية بالحبس 9 أشهر، وبعد دخوله السجن طلب وزير العدل لقاءه، لكن العقاد رفض مقابلته وقال مخاطبا من أرسلهم «قولوا لصاحبكم إن العقاد يرفض هذه المجاملة».
رغم وقوع مصر فى تلك الفترة بين مطرقة الاحتلال الإنجليزى، وسندان استبداد وقمع الملك وحكوماته، إلا أن ذلك لم يمنع الصحافة عن ممارسة دورها فى إخبار الناس بما يدور والدفاع عن الحرية والاستقلال والدستور، بحسب ما رصده صديقنا الكاتب النابه محمد توفيق فى الجزء الثانى من كتابه «الملك والكتابة.. حب وحرب وحبر».
فالمحاكمات والملاحقات وقطع الأرزاق والسجن «لم تردع الكُتاب أو تجعلهم يرتعدون ويتراجعون عن خوض حروب بسن قلم حبر، حبا فى صاحبة الجلالة ودفاعا عما يعتقدون أنه الحق.. فقدر الكاتب أن يكون فاعلا فإن لم يكن كذلك صار مع الأسف مفعولا به».