جريمة العصر فى زمن الاحتلال الإسرائيلى انحلت وتفككت تعبيراتها، شهداؤها مازالوا أحياء صامدين يبعثون من وسط الركام، أسطورة تتوالد على الجدران تتدفق بين الساحات، فى زنازين العدو وفى الشتات، فى أحلام العائدين إلى الأرض، فى زيتونها فى قببها وكنائسها، طرقاتها وأحيائها، حيث تتجاور الحياة مع الموت.
مشهد كارثى تكتنفه عبثية تهيمن على اللحظة الإنسانية، حيث يذوب الحدث فى شاشات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى؛ ترسانة السلاح الإسرائيلية والأمريكية أخرجت ما فى جعبتها من قنابل وصواريخ بمتفجرات وفسفور أبيض لتخترق الأنفاق وتنزل على المستشفيات والملاجئ والمخابز والمدارس فى استهداف غير مسبوق ومتعمد للأحياء، أى جحيم هذا؟! عائلات بأكملها تقتل ومجتمع برمته يخضع للتهجير وللإبادة البربرية، أطفال لم يتسنَ لهم حلم طفولة أو فسحة لعب ودراسة يلقون حتفهم فى أتون محرقة إسرائيلية أمريكية غربية.
تتراص الجثث، يحتضن الموتى بعضهم بعضا يرقدون فى أحضان الأرض المعمدة بالدم رافضين قرار التهجير الصهيونى والشوارع العربية تصرخ فيهم لانقاذ شعب صابر، ولتوقف المجازر، ولتصرخ الضمائر ضد العدو الغاشم..»، فهنا الأرض، هنا فلسطين التى تعيش الرعب فى مدنها وبلداتها وفى كل مرفأ ومعبر وعمارة وخيمة وملجأ، شوارع وطرقات تجرف وأبنية تنهار على رءوس قاطنيها، عدوانا على المدنيات والمدنيين الأبرياء، أشلاء تتناثر فوق الركام وتحته، لا صور فى التجليات تختلف فى تاريخ الوجع الفلسطينى، فالمشهد يتساوق وخططهم وسياساتهم واستراتيجياتهم.
بشاعة الموت، رائحة البارود، بقايا الفسفور الأبيض على أجساد الصغار، أشلاء تتناثر فى شوارع الموت عند أبواب المشافى داخل سيارات الإسعاف، كل شىء مستباح وبما يفوق الوصف وخارج الإدراك، وأكاذيبهم تتحاشى حقيقة الموقف وسردية الحكاية، تستنزف الوقت وتتضاعف معها الهستيريا التى ما فتئت تتمدد وتتكرر يوميا؛ تارة فى ميدان محرقة غزة، وأخرى فى أروقة مجلس الأمن ومساجلاته حامية الوطيس حول الإغاثات والمساعدات، والمجلس عاجز عن إيقاف القتل والدمار، إننا أمام مآزق بشرية تعبر عن نفسها بلا استحياء ولا أخلاق.
نشاهدهم هاربين من بيوتهم إلى بيوتهم إلى قبورهم يتوسدون مفاتيح العودة، رافضين التهجير والتوطين، لا وقت لديهم للبكاء لا مكان للنحيب أو الاستنجاد، فمن حولهم خدر، صم بكم تبلدت مشاعرهم عن الصراخات والنداءات، إنه وقت الصلاة على الموتى، وقت النشيد لهم. هلع الصغار ورعشات أجسادهم من البرد والانفجارات، بكاؤهم يفطر القلب وسط الخراب، نعيش الوقت الأكثر فظاعة والأعنف فى أبعاده التى نتجرعها سما عبر الشاشات، غصة سيتوارثها الشعب الفلسطينى فى سرديته لأجيال، هنا سقطت الأرض واغتيلت الطفولة، وذاكرة المكان يستحيل أن تمسح.
تعاظمت فلسفة التبرير والتحليل والتنظير، يتكلمون ببداهة وغرابة وتجهيل، أو بصمت صاخب مريب يعبر عن فانتازيا الجحيم، فهم سيقدمون المساعدات ويشيدون المستشفيات والمدارس بعد أن تنتهى الحرب، بعد أن تسوى غزة بالتراب فلا يعود فيها من يذهب إلى هذه المدارس والمستشفيات، ورغم ذلك فعند أسوار فلسطين الحبيبة وعلى عتبات أبوابها يصيح المنادى «حيا على الجهاد، حيا على الكفاح.. إنها الكلمة العليا»، فلا حياد فأنت إما مع الفلسطينى أو مع العدو الصهيونى المحتل».
وعندما تحاصر إسرائيل فعل المقاومة وتوصمها بالإرهاب، فهى لا تحاصر الفلسطينى ولا الرأى العام العربى والعالمى الرافض للاحتلال وجرائمه الكبرى، بقدر ما تحاصر الدلالة التى تعطى معنى جوهريا وقيميا لهذه المقاومة، لهذا الصمود والثبات وقوة الإصرار، هى ترتعد من هذه الدلالة، وهى تحاصرها فى الخفاء والعلن وتتخذ من نهج الحصار والتجويع والإبادة الجماعية والتطهير العرقى والعنصرية أسلوب بقاء، تطلق عليه «حق الدفاع عن النفس» وهى التى مجرد كيان مصطنع وغاصب محتل.
أما فى جوقة التصهين والتطبيع، فقد كثر المرتدون للأقنعة، تمددت هيئتهم كما هيئة ذئاب تنهش فى أجساد الأطفال الذين تفترس مجازر إسرائيل بلادهم وأحلامهم ومستقبلهم، يتوارون بالأقنعة متقمصين قبح مواقفهم أو انكفائهم حول ما تريده سيدة الرعب والقتل والتدمير، ينفذون لها المهمات القذرة بدوافع البقاء على الكراسى البالية أبد الآبدين، وعلى أجساد شعوبهم ينخرطون فى تنفيذ «الجريمة الكبرى» وفى تخريب الوعى ودس السموم فى التفاصيل والجزئيات حتى ليغدو حديثهم حديث سلام وأمان، وفى حقائق الأمور يشاركون فى النكبة الجديدة، فى حفلات القتل اليومية التى تقام على مذابح «المعمدانى، مخيمات جباليا والشاطئ والنصيرات وجنين... فكل أرض فلسطين مستباحة»، وأياديهم مغمسة بالدماء وأشلاء الشهداء الذين يتساقطون بالمئات والآلاف فى أيام.
إنه الانتقام الأسود والأكاذيب والاستكانة والتورط فى الجريمة، لا تحركهم مشاهد الإبادة وسردية الكارثة النكبة الأكثر مأسوية، حيث التهجير القسرى والبيوت التى تحال إلى خرائب لا أسقف ولا جدران لا شوارع ولا طرقات، الأرض ابتلعت أطفالها ونساءها، شبابها وشيبها، ضباب أسود حزين، دموع جفت والمنخرطون فى تدجين الوعى بالهمجية ما زالوا يبررون القتل والإبادة ويتآمرون على فلسطين التى تقاوم، يا لها من وصمة عار أخلاقية ستلاحقكم.
المجد للمقاومة، الخلود للشهداء.