في اليوم الاخير لزيارته التي استغرقت 3 ايام الى 4 محافظات في صعيد مصر، ارتدى وزير الاستثمار محمود محيي الدين على بذلته الانيقة شالا صعيديا ملائما للونها، وكأنها رسالة. والتقط مسئول بمحافظة سوهاج المغزى بنباهة ليمنح الوزير ما اسماه ضاحكا "الجنسية السوهاجية"، في بداية احتفال بمناسبة وضع حجر اساس اول فرع للهيئة العامة للاستثمار خارج القاهرة في منطقة الكوثر الصناعية.
ومن المؤكد ان هناك مياها تجري فيما يتعلق باهتمام الدولة بالصعيد وبالاستثمار فيه، يفسرها البعض بتوجهات الحزب الوطني في مؤتمره الاخير، ويرجعها البعض الاخر الى ضرورات الحملة الانتخابية للانتخابات البرلمانية والرئاسية في 2010 و2011، وربما هي للسببين معا لارتباطهما ببعض.
ويجدر القول هنا ان اهتمام الوزير بالصعيد، والمتبدي في حده الادنى في عدد زياراته لمحافظات الصعيد منذ ان دخل الحكومة، والذي ربما يفوق اي وزير اخر، سابق على هذا النشاط الحكومي، الذي سيصبح محموما في الاقليم المنسي.
لكن السؤال الاساسي هنا، ينبني على تعليق احد العاملين في احد البازارات الكاسدة في مدينة اسنا، ممن يرتدون الشال على الجلباب، على اوضاع المدينة المتردية والذي يقول بالنص ان "منطق الدولة في الاستثمار السياحي لا يتناسب مع اسنا"، وهو: هل يتناسب منطق الاستثمار الذي يدافع عنه محيي الدين والحكومة مع الاحتياجات التنموية للصعيد وناسه؟
نقطة الانطلاق الاولى لسياسة الدولة الاقتصادية، حتى حينما تنفق هي اموال دافعي الضرائب، هي تحفيز الاستثمار الخاص. ومن هنا كان التركيز، الذي لم يتجاوز في حالات عديدة بالنسبة للصعيد مستوى الخطاب وليس الفعل، على مشروعات البنية الاساسية واجراءات الاستثمار.
وفي هذا الاطار، يمكن فهم فكرة انشاء فرع لهيئة الاستثمار في سوهاج، يخدم المستثمرين بنظام الشباك الواحد..الخ. لكن كما يلاحظ تقرير للبنك الدولي عن تسهيل التجارة في العالم صادر في 15 يناير الماضي، بعنوان "الارتباط من اجل المنافسة"،
فإن تسهيل الاجراءات في حد ذاته لا يكفي. "برغم كل شيء فان تبسيط الاوراق ومبادرات الشباك الواحد قد لا تكون كافية بدون التعامل مع ابعاد اخرى"، يقول التقرير ضاربا المثل تحديدا بمصر، ومفسرا بذلك لماذا تؤدي جيدا على مؤشرات تطوير اداء الاعمال دون ان تشهد تطورا كبيرا في مؤشر تسهيل التجارة. والاستثمار ليس استثناءا من ذلك.
وتكفي هنا الاشارة الى ارقام وزارة الاستثمار التي تقول إن عدد المشروعات القائمة بمحافظة سوهاج من عام 1970 وحتى نهاية عام 2009 تبلغ 668 مشروع بإجمالي رؤوس أموال قدرها حوالي 1.204 مليار جنيه. نعم. في 39 عاما، بينها ازهى سنوات القطاع الخاص الخمس في ظل حكومة نظيف، لم يتجاوز اجمالي الاستثمارات من خلال شركات في محافظة، يعيش فيها 587 الف مواطن، مليار و200 مليون جنيه (اي اقل من ارباح شركة عز مثلا في عام واحد).
بل ويظهر انحياز سياسات تحفيز القطاع الخاص للمستثمر الكبير والشركات العملاقة، التي لا تأتي هنا، بأجلى ما يكون في حالة المنطقة الصناعية بالكوثر في سوهاج.
اذ يستنتج تقرير لمجلس امناء هيئة الاستثمار عن ثمار النمو صادر العام الماضي، عبر دراسة اجريت على المنطقة، ان "فترة التدهور في الوضع الاستثماري لمنطقة الكوثر قد تزامن مع الفترة التي بدأ فيها الاقتصاد المصري يشهد تحسنا ملحوظا في أدائه الكلي، مما يؤكد عدم انعكاس هذا التحسن على مناخ الاستثمار بالمنطقة". ومن نافل الذكر ان اغلب مشروعات الكوثر هي مشروعات صغيرة ومتوسطة الحجم.
القطاع الخاص اذاً ليس نقطة الارتكاز، فماذا عن الدولة؟ يقول وزير الاستثمار ان الدولة تتبع الان سياسة برجماتية مستشهدا في مرات كثيرة بالمثل الصيني، الذي يقول ان المهم ليس هو لون القط وانما هو انه يأكل الفئران.
تقول الارقام انه على مستوى حجم التدفقات الاستثمارية الكلية، لم يتلق الصعيد كله سوى 6% من الاستثمارات الجديدة، عامة وخاصة، في السنوات من 2000 الى 2007، مقارنة ب 34% منها توجهت للقاهرة و30% للجيزة و10% للاسكندرية. ويسري نفس الاتجاه بالنسبة للتوسعات في المشروعات القائمة: 3% من حجم الاستثمارات فيها للصعيد و32.6% للقاهرة و31.8% للجيزة.
الاكثر من ذلك هو ان الاستثمارات العامة التي تم ضخها في مصانع ومشروعات الصعيد تعاني من الافة التي كشف عنها تركيب حزم الانعاش في مواجهة الازمة العالمية. استثمارات ذات اثار محدودة على التشغيل، احد الهموم الاساسية والشروط الضرورية لتنمية الصعيد.
فالدولة ضخت اموالا بالمليارات لتطوير مصانع الصعيد، كمجمع الالومنيوم وسكر نجع حمادي وكيما باسوان وغيرها.
ويصف محيي الدين عن حق هذه الاستثمارات بانها كانت لتنشيء مصانع جديدة. لكن الاثر التشغيلي لهذه الاستثمارات محدود. بل ويترافق في حالات عديدة مع تقليص لعدد العمالة. على سبيل المثال، هناك استثمارات جديدة ب 600 مليون جنيه لانشاء مصنع جديد رقائق الومنيوم بمجمع الالومنيوم بنجع حمادي.
وسيوظف المصنع الجديد 300 عاملا فقط، بمعنى ان الدولة تنفق هنا 2 مليون جنيه لخلق فرصة العمل الواحدة.
وفي حالات اخرى، كطريق الصعيد – البحر الاحمر، وهو مشروع ضخم قد يكون له اثار جيدة على توصيل الاقليم بمخرج على العالم عبر ميناء سفاجا، فان التشغيل وان كان كثيفا (تقدره شركة حسن علام ب 20 الفا) لكنه مؤقت وليس دائما.
والاهم من ذلك، ان 65% فقط من هذا الرقم اصلا من الصعيد وهو ما يعني انه حتى في حالة شق طريق فان العمالة الصعيدية المؤهلة لا تغطي الحاجة. اذ ان التنمية، وحتى النمو الراسمالي، يحتاجان للتعليم والتدريب، المفتقد في الصعيد.
لكن حامد محمود، الاسناوي الذي يقرأ الشروق، ويحلم بان "يمشي الحال..بس يمشي الحال"، سعيد بان يرى الدولة مرة اخرى في مدينته، حتى وان كانت في صورة مجمع استهلاكي.
بل ويقبل بان يكون وجودها في صورة ازالة للبازار الذي يعمل به، والذي تصنفه الدولة كعشوائية. لكنه يشترط الا يكون ذلك لصالح شركات السياحة "اللي ما بترحمش" او لصالح "دخيل". باختصار..يشترط حامد "منطق استثمار" يرتدي شال الصعيد على جلباب الصعايدة.