فى ثمانينيات القرن المنصرم، كنت طالبا فى جامعة حلب، وعاصرت نجاح الجهود «الخلاقة» التى بذلتها السلطة السياسية، بذراعيها الأمنية والعقائدية، فى ترسيخ تدهور العملية التعليمية وإيصالها إلى إنتاج أجيال تتغاضى عن صنع مستقبل بلاد محكومة بالخضوع ومحكوم عليها بأن تتحمّل ما أُتيح من الكوارث أمنيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا.
فتبلورت سياسات تتبيع الشباب السورى، بعد أن تم تجميد إمكانية تطويره لعقل نقدى فى المدارس عبر منظمات «شعبية» اتبعت المناهج الأكثر شمولية فى الأنظمة الأكثر إقصائية. ومن خلال عملية تكوين المدرسين، استمرت محاولات التدجين العقائدى عند التحاق «ضحايا» المدارس بالجامعات الحكومية، وذلك قبل فتح المجال للقطاع الخاص السلطوى (الفاسد والمُفسِد) بالاستثمار فى الحقل التعليمى.
•••
وبعد أن عرفت الجامعات السورية أجيالا من الأساتذة المرموقين جيدى التكوين والمثابرة، تم الاعتماد أكثر فأكثر على أسراب جديدة من المدرسين الذين تم انتقاء اغلبهم بعناية أمنية دقيقة وامتحانات ولاء وخضوع وتدجين. فأصبح الجو محموما بين جيل قديم تقدمى الممارسة متطور الأساليب، وجيل جديد، رجعى التأثير ومحدود العلم وكبير الطموح الذاتى والمالى.
وقام خريجو الاتفاقيات التعليمية مع بعض الدول، الأشبه باتفاقيات مقايضة السلع، بالتمدد رويدا رويدا، ودون حياء علمى يذكر أو حتى حد أدنى من الاحترام العمرى على الأقل، بدفع الجيل الأول إلى الخروج من الحقل الموبوء الذى بدأ فى الترسّخ. فانتشرت ثقافة التقارير، بعد أن كان مجالها محصورا فى أوساط الطلبة لأسباب أمنية أو طبقية أو اجتماعية، وأثمرت هذه السياسة عن استبعاد بعض أعرق المدرسين أو دفعهم للإصابة بالقرف واختيار الانسحاب من هذا المجال السامى والالتحاق بجامعات عربية أخرى أو العودة إلى دولة التكوين العلمى العالى التى غالبا ما كانت غربية (إمبريالية مثلا).
وفرغ المجال للجيل الجديد الذى لم يؤلف كتابا أو يكتب مقالة علمية أو يشارك بمؤتمر علمى جدى، واضح التدريس فى الجامعات مرتعا لمن كان مشهودا لهم بالفشل الدراسى ولكنهم أثبتوا فاعلية أمنية أو كيدية عالية المستوى بدءا من سنوات الدراسة وانتقالا إلى سنوات التدريس. وبالطبع، شذّ البعض عن القاعدة ومارس مهنته بضمير.
•••
هذه الإحاطة العقائدية والأمنية للجامعة فشلت وبرز دور الطلبة فى إطلاق الحركات الاحتجاجية السلمية التى شهدتها، وما زالت، معظم المدن والبلدات السورية منذ مارس 2011. وعلى الرغم من تطور الجانب العسكرى للحراك السورى، إلا أن طلاب جامعة حلب ساهموا بشكل فعال فى المحافظة على أساليبهم الاحتجاجية السلمية وشاركوا فى عمليات الإغاثة لآلاف المهجرين الذين غادروا بيوتهم بعد قصفها وتدميرها.
يوم 15 يناير الماضى، ذكرت التقارير بأن قذيفتين قد أطلقتا على كلية العمارة فى هذه الجامعة مما أدى إلى قتل العشرات وجرح المئات. لقد تخرّجت دفعة جديدة من الشهداء لتعيد الأمل بأن جامعة حلب ما زالت تقاوم التجهيل والقتل.
نائب مدير مبادرة الإصلاح العربى