الصورة التى يكونها عن بعد من هو بمنأى عن الصراعات اليومية والشك بين أطراف أى عملية سياسية هى صورة مبسطة لا تحيط بجميع التفاصيل، وهى فى أغلب الظن صورة لن يرضى عنها أى طرف من الأطراف. ولكنها مع ذلك صورة تجلى الخطوط الأبرز فى العملية السياسية وتتوقف عند سماتها الأساسية والعلاقات السببية بين أصولها ونتائجها.
المراقب عن بعد لما آلت إليه العملية السياسية التى انطلقت مع نجاح الثورة التونسية، يلحظ أن عملية صياغة الدستور الجديد للجمهورية التونسية المرتبطة بها توشك على الانتهاء بنجاح بعد ثلاث سنوات وأيام من الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن على فى 14 يناير 2011. يلفت النظر أن العملية السياسية وعملية صياغة الدستور كانتا مرتبطتين ارتباطا وثيقا. بدأت العمليتان باعتماد دستور مؤقت موجز خطَ الطريق نحو صياغة واعتماد الدستور الدائم. والانتخابات التى جرت فى أكتوبر 2011 كانت فى الأساس انتخابات لتشكيل مجلس تأسيسى، فترته عام واحد، منوط به صياغة الدستور الدائم حسبما نص الدستور المؤقت. صحيح أن حزب حركة النهضة كان له النصيب الأكبر فى حكم تونس منذ هذه الانتخابات وهو حكم شكا منه فريق العلمانيين التونسيين، ولكنه كان حكما متأرجحا لم يكن ممكنا أن يغتر به النهضويون غرورا كاملا. كان يعرفون أولا أن حكمهم ليس إلا نتيجة فرعية لتوزيع الأصوات فى المجلس المنتخب أساسا لصياغة الدستور الدائم، ثم وهو الأهم بعد أكتوبر 2012، أى بعد انتهاء فترة العام المحددة للمجلس التأسيسى، كانوا يعلمون بضعف شرعية حكمهم المستند لنتائج انتخابات انقضت الفترة المحددة لآثارها. من جانب آخر، بعد الانتخابات لم تحتكر حركة النهضة كل المناصب. احتفظت هى لنفسها بالمنصب الأهم فى الحكم وهو منصب رئيس الوزراء، وذهب منصبا رئيسى الجمهورية ورئيس المجلس التأسيسى لشخصيتين من حزبين علمانيين تآلفا معها، ولذلك قيمة رمزية لا يستهان بها.
•••
لم يمضِ العامان اللذان انقضيا بعد انتخابات أكتوبر 2011 بدون صعوبات جمة. تراجعت إيرادات السياحة وتباطأ النشاط الاقتصادى، وتفاقمت مشكلة البطالة، وزاد الفقر المترتب عليها. علاوة على ذلك، انتشر الإرهاب الفكرى والاعتداء على الحريات، وتعددت العمليات الإرهابية فاغتيل سياسيان بارزان وراح ضحية هذه العمليات أفراد من الشرطة التى واجهت الإرهابيين، بمساندة من الجيش، فى منطقة الجبال المتاخمة للجزائر.
صعوبات مركبة تخللت أيضا عملية صياغة الدستور، وهى الصعوبات التى أدَت إلى إطالة أمد المجلس التأسيسى لما يقرب من السنة وربع السنة بعد السنة المحددة له. الصعوبات رجعت إلى الاختلافات البينة فى مقاربة كل من حركة النهضة والعلمانيين لنظام الحكم وفلسفته، وللحقوق والحريات التى يتمتع بها المواطنون والمواطنات. لم يكن غريبا أن أول المواجهات بين المعسكرين كان حول مصادر القانون والإشارة بشأنها إلى الشريعة الإسلامية. على الرغم من المراوغة والتعنت اللذين ينعيهما العلمانيون على الإسلاميين فى المجلس التأسيسى، فإن النهضة قبلت بسهولة نسبية الاكتفاء بالمادة الأولى فى دستور سنة 1959 التى نصت على أن تونس دولة مستقلة ذات سيادة «الإسلام دينها والعربية لغتها»، ثم رضت بإضافة مادة ثانية إليها تنص صراحة على أن «تونس دولة مدنية». منذ بداية صياغة الدستور، وعلى الرغم من حدة المواجهات، كان التفاوض والتوصل إلى الحلول الوسط هو المنهج المتبع. ولما احتدمت أزمتا العمليتين السياسية والدستورية فى صيف سنة 2013، تدخلت أربع منظمات عتيدة من منظمات المجتمع المدنى، وأولها الاتحاد التونسى العام للشغل، أى اتحاد نقابات العمال، ومعه منظمة أصحاب العمل، ونقابة المحامين للتوفيق بين الأحزاب السياسية. جوهر التوفيق هو تخلى حزب النهضة عن رئاسة الحكومة فى مقابل اعتماد الدستور فى المجلس التأسيسى فضلا على تشكيل الهيئة المستقلة للانتخابات التى يختار أعضاءها المجلس التأسيسى. بعبارة أخرى، قبل حزب النهضة أن تستقيل الحكومة التى يرأسها واحد من رجاله وله فيها الأغلبية، فى مقابل ألا تصر المعارضة العلمانية على حل المجلس التأسيسى.
•••
قبول الوساطة والتوفيق والتسوية التى عرضتها المنظمات الأربع بين مرة أخرى مركزية مبدأ التفاوض والحلول الوسط فى السياسة التونسية. أما قبول حركة النهضة لهذا المبدأ فإنه يمكن ردُه إلى اعتبارين. الأول هو أن المجتمع المدنى الذى خف إلى نجدة الفاعلين السياسيين يشترك مع أحزاب المعارضة فى كثير من مبادئها وقيمها. كان يمكن لحزب حركة النهضة أن يهاجم المنظمات الوسيطة الأربع وأن يتهمها بمحاباة المعارضة، ولكنه لم يفعل لأنه يعلم أن لهذه المنظمات وجودها المستقل وأن الالتقاء فى المبادئ والقيم هو التقاء موضوعى يرجع إلى الثقافة والثقافة السياسية الحديثتين اللتين تشكلتا فى تونس لما يقرب من القرن وربع القرن من الزمان. أما الاعتبار الثانى، وهو الأكثر حسما، فهو يرتبط بحكمة ما نص عليه الدستور المؤقت عن اعتماد كل مادة من مواد الدستور بأغلبية الثلثين، وإلا فإن مشروع الدستور يعرض على الشعب فى استفتاء ليقبله بأغلبية خمسين فى المائة زائد واحد، أو ليرفضه. لقد أدرك حزب حركة النهضة أنه لن يحصل على أصوات هذه الأغلبية المطلقة فى أى استفتاء، ولذلك فإن من مصلحته أن يتنازل عن رئاسة الحكومة نظير أن يبقى المجلس التأسيسى ومشروعه للدستور. ولكن مكتسبات المعارضة لم تتوقف عند ذلك. لقد كانت المعارضة واعية إلى إنها وإن كانت أقلية فى المجلس التأسيسى فإنها تستطيع أن تمنع عن النهضة أغلبية الثلثين لمشروع الدستور الذى تنتمى أغلبية من وضعوه إليها. النتيجة كانت توازنا وتقدما فى أحكام الدستور. فى مقابل أن الدولة راعية للدين وحامية للمقدسات، فإنها كافلة لحرية المعتقد والضمير، وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبى. الأحكام حول الحقوق والحريات متقدمة، من بينها حكم يحظر الاتهام بالردة، وهو حكم يتعامل بشكل عملى وواضح مع ضرورة إبطال مفعول الابتزاز بهذا السلاح الدينى الفتاك الذى يشوه السياسة والعملية السياسية. فى تقريرها للمساواة بين المرأة والرجل، لم تتوقف المواد التى جرى اعتمادها عند «المواطنون والمواطنات متساوون فى الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون من غير تمييز»، بل إنها ذهبت إلى النص على أن تشمل القوائم الحزبية فى الانتخابات أعدادا متساوية من الرجال والنساء. لم يختف الشك المتبادل بين أطراف العملية السياسية التونسية، ولا اختفى شكهم فيما يمكن أن يؤدى إليه تطبيق الدستور عندما ينتهى اعتماده، ويصار إلى العمل بأحكامه. هل يناور حزب حركة النهضة ويوظف مواد الدستور لإرساء النظام السياسى الإسلامى الذى يبغيه منذ اليوم الأول؟ هل تنجح الأحزاب التى ترغب فى فصل الدين عن السياسة فى مسعاها وتفصل بينهما فصلا تاما أو تجعل المسافة بين مجاليهما مسافة واسعة؟
•••
لا أحد يعرف. الشك مخيم واليقين مستحيل. هذا فى حقيقة الأمر هو جوهر الديمقراطية. العملية السياسية المعروفة نتائجها مسبقا هى نقيض الديمقراطية، والاطمئنان إليها يؤدى فى نهاية الأمر، إن لم يكن فى أوله، إلى التراخى فى الحكم وإلى تراجع العناية بمصالح الناس والافتئات على حقوقهم. هذه من محاسن العملية السياسية والدستورية فى تونس. بعد استقالة الحكومة فى الأسبوع الماضى، أسف كثير من أعضاء النهضة ولكنهم اعتبروا أنها استقالة لتحقيق المصلحة الوطنية، ثم أضافوا أن حزبهم سيعود إلى الحكم بمقتضى الانتخابات لأنهم يحسبون أن الشعب التونسى يريده. هذا قبول بتداول السلطة، وهو جوهر ثان للديمقراطية، لعل قبول الإسلاميين به حسنة أخرى من محاسن السنوات الثلاث للعملية الانتقالية فى تونس.