دعا رئيس الجمهورية مرتين إلى إجراء حوار وطنى حول نقاط الخلاف التى تفرِق أطراف العملية السياسية وتحول بذلك دون الحدِ الأدنى من الوئام الضرورى لاستقرار العلاقات بين هذه الأطراف. أما الحدُ الأدنى من الوئام فهو لازم بدوره للتفرغ لحل المشكلات الملحة وقصيرة الأجل التى تواجه البلاد، ولوضع السياسات الكفيلة بتفكيك المعضلات عميقة الجذور، التى يعانى المصريون منها، ثم إلى تحقيق أمانيهم فى الحرية، والتقدم، والعدالة. دعوة رئيس الجمهورية إلى الحوار لا يمكن أن تصدر إلا عن إدراك لضرورة الحوار ولفائدته بالنسبة لحكمه. الكتلة الأكبر فى المعارضة المطالبة بدولة مدنية، وهى جبهة الإنقاذ الوطنى، لم تلب الدعوة إلى الحوار فى المرتين. أسبابها هى أنها تريد حوارا حقيقيا ومركزا حول موضوعات محددة، حوار يؤدى إلى نتائج تطبق على أرض الواقع. حقيقة الأمر هى أن الرئيس وفريقه، والمعارضة المنتظمة فى جبهة الإنقاذ متفقان على مبدأ الحوار، أما الخلاف فهو على القواعد المنظمة للحوار ولما يمكن أن يثمر عنه.
التظاهرات التى ينظمها كل فريق، والتصريحات الصادرة عنهما ليست فى مجملها إلا عملية للتفاوض عن بعد. وتدخل على خط التفاوض أشكال الشغب، وممارسات العنف، المتعددة التى تكررت فى مختلف المدن المصرية، التى تنال من موقف الرئيس حتى وإن لم تضف مباشرة إلى موقف جبهة الإنقاذ. أعمال الشغب والعنف تمارسها مجموعات منظمة وغير منظمة، بعضها دفاعا عن النفس، وبعضها لأسباب ذات علاقة بالمعضلات الإقتصادية والاجتماعية عميقة الجذور التى لايبدو لضحاياها أن ثمة اهتماما جادا بها .
ولأن التفاوض عن بعد يستغرق وقتا ثمينا، فلقد تقدم حزب النور للتوفيق بين الطرفين، واشتملت مبادرته على بنود ثلاثة يرى أن الاتفاق عليها كاف لانعقاد الحوار، وهى تشكيل حكومة وحدة وطنية، ووضع ضمانات لنزاهة الانتخابات التشريعية القادمة، وإقالة النائب العام. أغلب الظن هو أنه إن قبلت جبهة الإنقاذ هذه البنود، فهى ستعتبرها مدخلا للبحث فى قواعد الحوار وجدول أعماله. قبل الاستفتاء على الدستور وبعده، عرض رئيس الجمهورية على المعارضة البحث فى الأحكام الخلافية فى الدستور. من نافلة القول أن البحث فى تعديل دستور بعد شهر من اعتماده شىء مخجل واعتراف بفساد العملية التأسيسية. ومع ذلك، فيمكن توقع أن تقبل جبهة الإنقاذ عرض رئيس الجمهورية وأن يكون تعديل الدستور أهم ما تطلب ادراجه فى جدول أعمال الحوار. أولم يكن الإعلان الدستورى المكمل الصادر فى نوفمبر 2012، ثم مشروع الدستور وعملية اعتماده، هما ما تمحورت حولهما نشأة الجبهة ثم تدعيم بنيانها؟
●●●
ما الذى يمكن التفاوض بشأن تعديله فى الدستور؟ الداعون إلى مدنية الدولة يرون أن فى الدستور الكثير الذى ينبغى تعديله، دعك عن أن البعض طالب بإلغائه، ولكن هل باستطاعتهم تغيير كل ما يبغونه؟ من الأوفق لهم التركيز على ما يمكنهم تعديله، والالتفات عن تلك الأحكام التى يصعب تغييرها. «المدنيون» كانوا يفضلون عدم إضافة المادة 219 التى تفسرُ ماهية مبادئ الشريعة الإسلامية المذكورة فى المادة الثانية، فليس التفسير وظيفة الدستور بل هو من اختصاص المحكمة الدستورية، فضلا على أنه يصبغ مصر بصبغة مذهبية هى أكبر منها. غير أن هذه المادة عزيزة على حزب النور بالذات، بل هو يعتبرها من أهم إنجازاته الدستورية، والنور هو الحزب الذى أخذ على عاتقه إجراء الحوار الوطنى وانجاحه. هل من الحكمة الدخول فى سجال بشأن تعديل هذه المادة؟ المادة 195 تنص على تعيين وزير الدفاع من بين ضباط القوات المسلحة. هذه مادة لا مثيل لها فى دستور أى دولة، وهى مادة صعبة القبول على الديمقراطيين الداعين إلى مدنية الدولة. ولكن هل من الحكمة اختصام القوات المسلحة فى وقت الاعتبار الأهم فيه هو تكريس حيادها بين أطراف العملية السياسية؟ الأوفق فى الظروف الدقيقة الحالية هو أن تترك هاتان المادتان وشأنهما، وأن ينصب الجهد على تعزيز الطابعين المدنى والديمقراطى للدولة. وفى ذلك، فإن ثمة ست اشكاليات يمكن التصدى لها بالتعديل، وبالإضافة، وبالحذف. هذه الإشكاليات هى المتعلقة بالعلاقة بين المجالين الدينى والسياسى، والمساواة وعدم التمييز بين المواطنين، والحريات والحقوق المدنية والسياسية، وسلطات رئيس الجمهورية، وميزانية القوات المسلحة واختصاصات القضاء العسكرى، والممارسة الفعلية للحقوق الإقتصادية والاجتماعية ويتناول هذا المقال الإشكاليتين الأوليين.
●●●
الإشكالية الأولى هى تلك الخاصة بالعلاقة بين المجالين السياسى والدينى، واستقلال عملية اتخاذ القرار فى المجال السياسى. المادة الرابعة تجعل من الأزهر الشريف مؤسسة دستورية، وهو يسبق فى ترتيب ذكره نفس مؤسسات الدولة التى يوجد الدستور أساسا لتنظيمها. ثم إن هذه المادة تشرك الأزهر الشريف فى عملية اتخاذ القرار السياسى، حتى وإن كان بمجرد رأى هيئة كبار علمائه فى الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية. القرار، سواء اتخذ شكل القانون أو الإجراء الإدارى، هو قرار سياسى طالما اتخذته السلطة التشريعية والتمثيلية، أو السلطة التنفيذية. وظيفة ممثلى القوى السياسية هى السهر على ألا يخرج القرار على الدستور الذى يحدد مبادئ الشريعة باعتبارها المصدر الرئيسى للتشريع و يفسر ماهية هذه المبادىء، فإن خرج يكون من اختصاص المحكمة الدستورية الفصل فى مدى التزام القرار بأحكام الدستور، وإبطال القرار إن لم يكن قد التزم. المفاوضون عن القوى المدنية يمكن أن يطلبوا حذف هذه المادة.
●●●
الإشكالية الثانية تتعلق بالمساواة وعدم التمييز بين المواطنين، وهى اشكالية ذات أوجه متعددة. المادة العاشرة تنص على التزام الدولة «بتوفير الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص دون تمييز»، ولا يوجد أى تفصيل يكون بمثابة التوعية بأسباب التمييز غير المقبولة، مثل الجنس، والدين، والعرق، واللغة، والأصل الاجتماعى، والرأى السياسى، وهو ما درجت عليه كل الدساتير المصرية منذ سنة 1923، كما تنص عليه الإتفاقيات الدولية التى التزمت مصر بتطبيقها. المعارضة المدنية ينبغى أن تطلب ادخال هذه التفصيلات على المادة، كما ينبغى لها أن تطلب إضافة حكمين آخرين بشأن مكافحة الكراهية الدينية والعرقية، علاوة على التزام الدولة بوضع سياسة نشطة تهدف إلى تحقيق المساواة وعدم التمييز، وليس مجرد الالتزام السلبى بعدم قبولهما. فى صلب هذه الإشكالية تقع المادة الثالثة الخاصة باحتكام المصريين المسيحيين واليهود إلى شرائعهم فيما يتعلق بأحوالهم الشخصية واختيار قياداتهم الروحية. مجرد اختصاص مجموعة من المواطنين بمعاملة خاصة هو إبراز لاختلافهم وهذا بالتالى يفتح الباب لمعاملتهم بغير مساواة. هذه المادة أيضا يمكن حذفها، خاصة إن حذفت المادة الرابعة التى كانت السبب فى التفكير فى إضافتها. وليس خافيا أن المصريين المسيحيين واليهود دائما ما احتكموا إلى شرائعهم، وأنه لم يكن فى ذلك مشكلة قط. المرأة وحقوقها هى الوجه الثالث لإشكالية الساواة وعدم التمييز. المرأة ضحية صارخة للتمييز فى مصر، ويكفى أن نلحظ ارتفاع نسبة كل من الأمية والفقر بين النساء عنها بين الرجال، ومعدل البطالة بين النساء الذى يتعدى ضعف المعدل بين الرجال. هذا فى الوقت الذى تعول فيه نساء ما يربو على ربع الأسر المصرية. ضف إلى ذلك التحرش الجنسى المتزايد الذى تتعرض له النساء، وإنهن كثيرا ما يحرمن فعليا من حقهن الشرعى فى الميراث.النساء فى مصر فى حاجة ملحة إلى نفس السياسة النشطة الهادفة إلى القضاء على التمييز ضدهن.
التصدى لهاتين الإشكاليتين، وللإشكاليات الأربع الأخرى فى الدستور، تصد جديا يرضى عموم المواطنين، يمكن أن يوفِق بين الأطراف المتنازعة، وأن يرسى الأساس لنظام سياسى قابل للحياة.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة